بين البنوك الإسلامية والبنوك التقليدية قراءة في الفروق والاختلافات بين المصرفية الإسلامية والمصرفية التقليدية
بقلم الدكتور/ محمد السيد علي حامد
كانت المصارف الإسلامية تجربةً واقعيةً تجسَّدت فيها مبادئ الاقتصاد الإسلامي، والتي أكدت في الوقت عينه على أنه ليس مجرد مجموعة من الـمُثُل بعيدة الصلة بالواقع والتنمية في شقيها الاقتصادي والاجتماعي، ومنذ بدأت هذه التجربة وهي تتطوَّر وتنمو، وتجترح الخطط وتستحدث من الآليات والمنتجات التي وسَّعت من نطاقها وجعلتها واقعًا ملموسًا فعّالا تجاوز إطار التواجد إلى آفاق التفاعل، وإلى أقطار الابتكار والتعامل بإيجابية مع مشكلات العصر التي يواجهها عالم اليوم، فصارت جزءًا لا يتجزأ من عملية التنمية في المجتمعات التي تعمل فيها خصوصًا وللنظام المصرفي بصفة عامة، من خلال ما تقدمه من نموذج نظري لوظيفة النقد وتبرهن عليه بالأنشطة النظيفة، التي تعزِّز الاستدامة وتحقق التوازن بين الربح والقيمة، أو بين أشواق الروح ومتطلبات الجسد.
تعمل البنوك جميعها في الائتمان وهو واسطة المبادلة التي تتم أو تنتهي بعد فترة معينة، فالائتمان هو الثقة التي على أساسها يتم نقل الأموال من جهات الفائض إلى جهات الحاجة أو العجز، ومع وجود التشابه في هذه الفكرة العامة والتشابه في بعض العمليات المرتبطة بهذه الفكرة إلا أن البنك الإسلامي يختلف عن البنك التقليدي في المنطلقات، والأهداف، والغايات، والعلاقات الاقتصادية، والتي ظهرت آثارها في جانب الاتجاهات الاستثمارية، والأنشطة العملية، وقواعد العمل والتوظيف لدى كل من البنكين أو بالأحرى النظامين.
وأقدِّم في هذه الدراسة أوجه الاختلاف بين كلٍّ من المصرفين، من خلال جملة من المحددات والمعايير، هي: مستوى النظام الحاكم، والعلاقة بخدمة الاقتصاد والتنمية، ومدى تأثير الأخلاق، ثم مدى محورية الرقابة على أعمال كل بنك، وطبيعة أدوات الاستثمار، وحجم تحمل المخاطر في كل من النظامين(1)، آملا من ذلك أن تظهر طبيعة وخصائص كل من المصرفين؛ ليظهر وجه تمايز كل منهما عن الآخر.
1. الإطار المرجعي:
يلتزم البنك الإسلامي في تعاملاته بأحكام الشريعة الشريعة الإسلامية، فلا مجال لمعاملة تخالف الشريعة، ولا شرعية لشرطٍ يحل حرامًا أو يحرم حلالًا، ولا مكان لأثر أو التزامٍ لا يقره الشرع الشريف، فجميع التعاملات والقوانين والمنتجات ترجع في الأصل لمبادئ الشريعة الإسلامية، وهي مبادئ جميعها قائم على العدل والإنصاف.
ويمثِّل تحريم الربا محور التعاملات الإسلامية، وهذا يعني مساهمة كبيرة من هذه البنوك في تحقيق الاستثمار العادل الخالي من الظلم والآثار الضارة بالمجتمعات، والمصرف الإسلامي تاجر حقيقي أو مستثمر فعلي، ولا يقع النقد عنده موقع السلعة مطلقًا، بل كل معاملة يشوبها شيء من ذلك تدخل في إطار الربا المحرَّم، والربا بوصفه غرامةً يدفعها طرف لطرف آخر لا لشيء إلا مقابل القرض، تمثِّل ظلمًا واستغلالًا سواء كان القرض استهلاكيا أو إنتاجيا، ففي كلا الحالتين سيكون هناك تكاليف ماليةٌ يتحملها بعض الناس لصالح غيرهم، ولو بصورة غير مباشرة كما يظهر في تكاليف التضخم وارتفاع الأسعار.
في حين أن البنك التقليدي تحكُمه القوانين الوضعية والأعراف الدولية، دون النظر في أحكام الشريعة الإسلامية، بل تعتبر الفائدة الربوية أساسًا في معاملات هذه البنوك، وقد يشوب بعض العقود شيءٌ من الغرر أو الجهالة، وتعتمد بعض هذه المعاملات على المقامرة الصريحة؛ وهذا يتَّسق مع مفهوم الربح في هذا النظام، والذي يصدُق على كل كسب يقرُّه القانون بصرف النظر عن علاقته بالعدل أو موقعه في نظر الأديان. والمصرف في حالة البنك التقليدي يتاجر في سلعة هي النقد، حيث يشتريه بفائدة أقل، ويبيعه بفائدة أعلى وربحه هو فرق ما بين عائد البيع وثمن الشراء، فالنقود سلعة وغاية في حالة المصارف التقليدية، وليست وسيلةً لتمويل الأنشطة الاقتصادية وإنتاج السلع والمنافع لإشباع الحاجات التي هي غاية الاقتصاد الإسلامي.
2. العلاقة بالاقتصاد:
نعم هناك علاقة وثيقة بين البنك التقليدي والاقتصاد، فهو عامل ضمن هذا المجال ويستفيد من النظم والآليات؛ ليعزز أرباحه وفقًا للطريقة السابقة القائمة على الحصول على زيادة عائد الإقراض عن الاقتراض، فغير منكور هذا الدور، وغير مجهولة تلك العلاقة، غير أن الطريق الذي يسلكه لتحقيق التنمية ينطوي على تكاليف تؤدي إلى إرباك النظام الاقتصادي، وإدخاله في أزمات ودورات اقتصادية، فلا يخلو نظام الفائدة مطلقًا من هذه الدورات الاقتصادية التي تروح وتغدو في فلك التضخم والركود، وهما ضدان باتا يجتمعان في نظام الفائدة في ظاهرة تسمى “الركود التضخمي” مما يدل على قيامه على أساس متناقض غير منطقي.
وعلى الجانب الآخر توجد نفس العلاقة، حيث يرتبط البنك الإسلامي بالاقتصاد، بل هو من هذه الناحية أشد التصاقًا من البنك التقليدي؛ لأن ارتباطه بالاقتصاد قائم على أساس الفعالية والكفاءة، والرشد، وتوظيف القيمة، وهي أمور لا توجد مجتَمِعةً في البنك التقليدي الذي يوجِّه تيار الأموال إلى القنوات الأكثر جريانًا بصرف النظر عن موطنها وثمراتها، المهم هو الفائدة.
أما المصرف الإسلامي فارتباطه بالاقتصاد قائمٌ على أساس نظريةٍ شاملةٍ، وأسس فلسفية عالية تربط بينه وبين مسؤولية تحقيق التنمية، لا من أي سبيل ولا بأي طريقة، وفي أي مكان ولا في أي موضوع استثماري، بل عن طريق ترجمة الفكر الاقتصادي الإسلامي بمجمله إلى واقعٍ معيشيٍ ملموسٍ، يقوم على أسس الاقتصاد التي تتزاوج بين الغايات الإنسانية والغايات الربحية، أو بين العقيدة الإلهية وأساليب تحقيق هذه التنمية، ومن هنا تتَّصف هذه التنمية بأنها رشيدة في المسار، عادلة في التوزيع، نبيلة في الغايات، وطنية في العمل، إنسانية في الهدف، ولا كذلك الأمر في حالة التنمية التقليدية.
3. درجة المساهمة في التنمية:
لا ريب أن البنك الإسلامي يُسهم في تنمية المجتمعات التي يعمل فيها، كما تقرر سابقا. أي: سواء من خلال تعزيزه جانب الربح، أو من خلال العدالة في توزيع الدخل والثروة في المجتمعات والاقتصاديات التي يعمل فيها، ثم في جانب إعادة التوزيع، التي يقوم بها من منطلق إيمانيٍّ شرعيٍّ القرض الحسن والتبرعات والزكاة.
وإن إسهامه في التنمية إسهامٌ حقيقيٌّ شاملٌ فاعلٌ، فهو لا يتوخَّى أصحاب القدرات التي تقول دراسات الجدوى إنهم قادرون على الوفاء بالتزاماتهم، وأنهم مهمون للبنك من هذه الناحية، بل يتخطّى اهتمامه هذه الجهة من منطلق مسؤوليته والتزامه بالأهداف الاجتماعية للتمويل والاستثمار، ولهذا يطالُ أثره التنموي الطبقات المتوسطة والأدني منها في سلك القدرات الاقتصادية، فيقدم تمويله لأصحاب الحرف والمهن وصغار التجار، بالإضافة إلى كبار التجار، فيحصل التوازن بين الغايات الاجتماعية والغايات الربحية التي لا تنفك أبدا عن آثار تنموية وتأثيرات اجتماعية {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77].
إنه بحرصه على الاستثمار وتوسيع مجالاته وآفاقه من خلال الشراكة، يعزِّز من رسوخ الاقتصاد القومي، ويمد بساط النشاط الاقتصادي فيحقِّق توسُّعا في الأنشطة ويزيد من ملكية الأصول الإنتاجية، ويزيد من عرض فرص العمل وتنويع مجالاتها ومساراتها والارتقاء بالعاملين من خلال التدريب المستمر، وبذلك يضيف للناتج الإجمالي ويوسع من دائرة التوزيع، فيقضي على الفقر المطلق، وفقر القدرات، ويحقِّق استقلالية الأمة، ومن خلال اعتماده مبدأ تكفاؤ الفرص واختيار الأمثل يستقطب الكفاءات ويحدُّ من هجرتها خارج الوطن فيعظم الاستفادة من الموارد البشرية والموارد الاقتصادية في الوقت ذاته، وناهيك بحرصه على تطبيق قيم الاقتصاد الإسلامي في الحفاظ على البيئة والعمل والأمانة والثقة والصدق وغيرها، ناهيك بهذا من مساهمة كبرى في إيجاد بيئة اقتصادية أخلاقية لا يسود فيها الغش ولا الخداع، ويعني ذلك سلعا ومنافع، تتصف بالجودة، وتحقق الاستدامة وتحافظ على البيئة.
ولا كذلك الحال في البنك التقليدي، الذي يقتصر دوره على تنمية المجتمعات الرأسمالية الكبرى أكثر من إسهامه في تنمية المجتمعات التي يعمل فيها، وقد وضح بالتجربة أنه يُسهم في زيادة الفجوة بين الفقراء والأغنياء “يزداد الأغنياء غنىً، ويزداد الفقراء فقرا”، وإلى جانب ذلك فإنه لا يهتم بالتنمية الاجتماعية، ولا يقدم القرضَ الحسن ولا يعرفه نظامه المصرفي، وليس للزكاة موقع في نظمه أو وجود في اهتماماته، ولا يقدم تبرعاتٍ سنويةٍ من منطلقٍ فرديٍّ أو قانونيٍّ.
كما إنه يركِّز في توجيه التمويل على الزبائن والتجار الكبار ذوي الملاءَة الأعلى، دون غيرهم من ضعفاء الملاءة أو من هم ضمن قائمة صغار التجار، مما يخلُّ بديمقراطية التمويل التي تحول بين الطبقات الوسطى والفقيرة وبين الترقي في مصافّ الغنى، فيخلُّ بمبدأ تكافؤ الفرص، ويُسهم بنحو ما في استعباد الفئات الضعيفة ووقوعها عند حد خدمة الكبار والرضا بما يبذلونه من أجور ومرتبات، بصرف النظر عن موقعها من كفاية الشخص وملاءمتها لحاجاته، وفي هذا ما فيه من خلل بل ظلم في نظام التوزيع وحبس المال عن الانتقال لأيدي البشر، باعتباره وسيلة لإشباع حاجاتهم وتحقيق رفاهيتهم.
4. العلاقة بالمبادئ والقيم الأخلاقية:
تمثِّل الأخلاق محورًا لعمل البنك الإسلامي، وحضور القيم في أعماله لا يغيب ولا يتلاشى، انطلاقًا من الصبغة الأخلاقية للمعاملات الإسلامية، وانطلاقًا من أصالة الأخلاق في النظرية الاقتصادية الإسلامية، وفي هذا الإطار تتَّصف الأعمال المصرفية الإسلامية بالأمانة، والصدق، والتسامح في المعاملة، ولا تنفكُّ البتة عن ترسُّم المثل، والأخلاق الفاضلة، والسلوك الحسن، والحلال الطيب.
في حين لا يعبأ البنك التقليدي بالأخلاقيات والقيم الفاضلة، إذا ما تعارضت مع أغراضه الأساسية، ولا نريد الحديث عن التزامه بقيم الصدق والأمانة وغيرها، فإن نظم الحوكمة المعاصرة قد وضعت أُسُسًا لالتزام هذه القيم في إدارة المؤسسات، خاصة بعدما أدى غياب هذه الحوكمة إلى اختلالات واضطرابات اقتصادية عانت منها هذه المجتمعات بسبب التطلُّع الحارِّ إلى الربح ما أدى إلى مغامرات غير محسوبة العواقب.
لكنا نريد في هذا الصدد توجيه النقد إلى نظام الفائدة بذاته فهو نظام غير أخلاقي أشبه بالاستعباد والتسخير، حيث تتسخَّر فيه مجموعة من البشر لخدمة مجموعة أخرى، سواء كانت هذه المجموعة هي المستهلك الذي سيسدِّد عن المنتج هذه الفائدة ممثَّلة في ارتفاع سعر السلعة، أو كانت هي المقترض نفسه حين يئن لاحقًا من ثقل وطأة أعباء الفوائد في صورتها الأولى، أو بعد جدولتها وتضخمها لتصير {أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} لا يقف أثرها الكارثي عند حد المقترض فقط، بل قد يكتوي بنارها نظامٌ بأكمله يوشك أن يصدِّر هذه الأزمة لتؤثِّر على العالم بأسره،(2)كما حدث في أزمة 2008م التي صدَّرت آثارَها الكارثية إلى مختلف دول العالم بسبب انتشار المؤسسات الربوية ذات الصلة ببعضها البعض، وكانت المؤسسات المصرفية الإسلامية بمنجى عن هذه الآثار بسبب قيامها على أساس استثماري حقيقي بعيد عن الربا والفائدة.
لا يعرف البنك التقليدي القرض الحسن وفي ذلك تضييق لأبواب الارتفاق ويسر الحياة، ولا يعرف التمويل لأجل الحاجة وفي ذلك تضييق لأبواب الغنى، ولا يعرف إنظار المعسر وفي ذلك ما فيه من توجُّه نحو إفقار الأفراد بزيادة الفوائد، زيادةً قد تصل إلى الاستيلاء على جميع ممتلكات المدينين بما فيها المسكن(3).
وفي جانب النظر إلى النقد فإن البنك الإسلامي يتماشى مع الطبيعة التي خُلق عليها النقد وهو أنه وسيط للتبادل، مخزن للقيم، معيار للسلع، فلا يتعامل بالربا مطلقا، ونمو المال عنده بالتقليب والاستثمار الحقيقي الذي يرتبط بسلعة، فالمال أحد الأطراف وليس هو الطرف الوحيد في المعادلة؛ ولهذا يتعامل في حدود النقود الموجودة على أساس النمو الحقيقي مما يُحِدُّ من التضخم الاقتصادي.
ولا يتعامل في النقود عن طريق الإقراض والاقتراض، فجميع المنتجات المطروحة في البنوك الإسلامية تقوم على أساس صيغ استثمار حقيقية تستهدف توليد منفعة، أو إنتاج سلعة، أو مبادلة تقع على إحداهما.
وتوظيفه للنقود مقتصر على مجال الطيبات والخيرات، ولا يقبل في فلسفته توظيف المال في المجالات التي حرمتها الشريعة الإسلامية؛ كالاتجار في الخمر والخنزير والسلع المضرة، انطلاقًا من فلسفته الكبرى في الحفاظ على مقومات الحياة الطيبة والممثلة في الضروريات الخمس التي تحقق الأمن على مستوياته المختلفة (النفسي والديني والثقافي والبدني والاقتصادي)، وتلك مقوِّمات ما يسمى بالتنمية المستدامة التي قفزت إليها الأفكار العالمية باعتبارها غاية الغايات في العصر الحالي.
في حين لا يبالي البنك التقليدي إلا بما يُدرُّ دخلًا ويحقِّق ربحًا بلا مخاطرة، وأيسر سبيل لذلك هو بيع النقد والاستثمار فيه على أساس أنه سلعة بذاته، ووظيفة النقود عنده هي الإقراض بعائد أعلى من عائد الاقتراض، ولا يبالي إذا تعامل بأكثر من النقود الموجودة أضعافًا مضاعفةً على أساسٍ ربويٍ، مما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار، والتضخم الاقتصادي، ثم الانكماش الاقتصادي.
وإذا أصبحت المعادلة الاستثمارية قائمة على أساس النقد مقابل السلعة فإنه لا يفرِّق في تعاملاته واستثماراته بين الطيب والخبيث، فيتعامل بالعديد من الاستثمارات التي تكون أنشطتها محرمةً أو مخالفةً لأحكام الشريعة الإسلامية أو الآداب العامة.
5. مدى توفر الرقابة ودرجاتها:
إذا كان أساس عمل المصارف الإسلامية هو الالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية، فإنه من الضروري وجود هيئة رقابةٍ شرعيةٍ ممثَّلةٍ في مجموعةٍ من الفقهاء المعتبرين للنظر في منتجات وتمويلات وعقود ومستندات البنك، بالإضافة لوجود إدارة رقابة شرعية داخلية لفحص المعاملات من الناحية الشرعية.
في حين أنه لا ضرورة لذلك في البنك التقليدي ويكفي عنده الرقابة القانونية والإدارية أو نظام الحوكمة التقليدي، والذي يضمن عدم الانحراف عن المسار القانوني والنظامي الذي يعمل ضمنه البنك، مما يعزِّز من دور هذه البنوك كوسيط ائتماني على أساس قاعدة الفائدة لا غير.
إن بساطة الدور الذي يقوم البنك التقليدي لا تحتاج نظامًا معقَّدًا لابتكار جديد أو مراقبة الالتزام أو دراسة العمليات، فجميع العمليات نمطية قائمة على أساس الإقراض والاقتراض، على خلاف البنك الإسلامي الذي يقتضيه الالتزام الشرعي أن يراجع كل المعاملات ويتحقَّق من خلوها من محرم، ثم ينظر في موافقة التطبيق للفتوى والنموذج، إلى جانب الحاجة إلى ابتكار أدوات جديدة ونُظُمٍ مستحدثة لتعظيم الدور الاستثماري الذي يضطَلع به هذا البنك.
والرقابة في البنوك الإسلامية رقابة ذات مستويات متعددة تبدأ من ضمير الفرد، وتصل إلى أعلى منصب في المؤسسة، وكل منها له دوائر وعمليات تتداخل جميعها لتضمن جودة منقطعة النظير في المنتج المصرفي الإسلامي، لا تتم هذه الرقابات بصورة معقدة ولا بطريقة متعسفة، بل تتم بعفوية بالغة وبنظم سلسلة، حيث تنساب من ضمير الفرد الخاضع لنموذج معين من الأخلاق والقيم، والأهداف والتفضيلات، فتنعكس على عمل يده وتصل إلى أعمال الآخرين من خلال قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في دوائر تتداخل وتتقاطع لتشكل إطارًا محكما يحول دون الخلل أو الانحراف أو الغش، وصولًا إلى دور الرؤساء في المؤسسات الإسلامية الذين تم تعيينهم على أساس الكفاءة والرشد والخبرة(4)، ويلي ذلك هيئة الرقابة الشرعية التي تضع النماذج وتراقب الأعمال وترصد الانحرافات وتقوِّم اعوجاجها قبل أن يخرج المنتج إلى العيان، وتلك منظومة لا يعرفها نظام من النظام مهما أحكمت قبضة القانون فيه.
6. طبيعة أدوات الاستثمار المستخدمة:
تنعكس فلسفة المصارف الإسلامية والتزامها الشرعي على طبيعة الأدوات الاستثمارية التي تستخدمها لتحقيق أغراضها، فيستثمر الأموال من خلال وسائل وصيغٍ مشروعةٍ ومتنوِّعة؛ كالمضاربة والمشاركة والمرابحة والاستصناع والسلم، وغيرها من الأدوات القديمة والحديثة، التي تخضع لنظام شامل محكم من القواعد والقوانين الشرعية التي يتحدَّد فيها الكسب على أساس الربح وتقاسم المخاطر، لا على أساس الفائدة الثابتة بصرف النظر عن عائد النشاط؛ ولهذا يستقبل المصرف الإسلامي أموال المودعين على أساس المضاربة “المشاركة في الربح” باستثمار أموال المستثمرين في تعاملاتٍ شرعيةٍ، وبناءً على عملٍ معيَّنٍ وخدمةٍ معينةٍ، ويكون توزيع الربح بناءً على ما يقسِمُهُ الله من ربحٍ.
أما حالة البنك التقليدي، فإننا نجده يستثمر الأموال من خلال أسلوبٍ واحدٍ فقط وهو القرض بفائدة، ولا يستقبلُ أموال المودعين إلا على أساس الاقتراض بفائدةٍ ثابتةٍ محدَّدةٍ مسبقًا على رأس المال، فالهدف الرئيسي هو الربح على حساب الفائدة المحرَّمة، التي تأخذها من الزبون على القرض الذي يعطيه.
فأدوات المصرف الإسلامي أدوات تنموية تهدف إلى تعزيز القيمة المضافة، وتحقيق التنمية الاقتصادية وفق أنشطة استثمارية حقيقية، تقوم فيها النقود بدورها الطبيعي كوسيط للتداول ومخزن للقيم ومعيارٍ لها، وبهذا يقع دورها في تحريك النشاط الاقتصادي، على عكس النظام التقليدي الذي تكون فيه النقود سلعةً وثمنًا في الوقت ذاته عبر آلية الإقراض والاقتراض، مع اعتبار الربح فرقَ ما بين سعر الدفع وسعر الاقتضاء، أو التمويل والاسترداد.
وإلى جانب ذلك تتَّصف الأدوات التي يستخدمها البنك الإسلامي بأنها أدوات تنموية، فنظام المشاركة الذي يمثل قاعدة أساسية في التوظيف الائتماني الإسلامي “لا يقوم على الربح كهدف وحيد، بل إنه يسعى إلى جانب هدف الربح إلى تحقيق أهداف أخرى، مثل فتح مجالات للعمالة العاطلة، والارتفاع بإنتاج وإنتاجية عوامل الإنتاج الداخلة في المشروع، ورفع دخولها وعوائدها”(5).
7. أساس تقاسُم المخاطر:
يمثل مبدأ تقاسُم المخاطر أحد أهم الفوارق الجوهرية بين البنوك الإسلامية والبنوك التقليدية، فلا توجد مخاطر أصلية تهدِّد عمل المصارف التقليدية، حيث لا يقوم التعامل على أساس تقاسم المخاطر إن وقعت للنشاط الاستثماري، هذا إن وجد نشاط اسثثماري كما لو كان القرض موجها لمشروع معين، ناهيك بكون القرض موجها للوفاء بحاجات استهلاكية لا يتوقع حصول عائد من ورائها. والآثار التعاقدية في حالة البنك التقليدي ثابتة لا تختلف من عقد لآخر حيث تجتمع كل مظاهر الائتمان لدى المصرف التقليدي في آلية واحدة هي الإقراض والاقتراض على أساس الفائدة، وبناء على هذه القاعدة فكل طرف تتحدَّد التزاماته في مواعيد السداد، وحجم الفائدة المقررة مسبقًا، أو المتوقَّع تقررها عند الإخلال بشيء من أجزاء العقد.
والمخاطر التي يواجهها البنك التقليدي حينئذ هي مخاطر عدم السداد أو النكول، وغالبا ما يتحوط البنك إزاءها بضمانات ورهون تضمن للبنوك تعويضًا لما عساه قد يقع من ضرر أو خطر، فالمخاطرة تكاد تكون منعدمة في مثل هذا النظام، ويعني ذلك أن الخطر جميعه قائم على عاتق المستثمر الذي قد يقترض من البنك للدخول في أنشطة استثمارية وقد يواجه خسائر تؤدّي إلى إفلاسه تماما.
بخلاف الحال في البنك الإسلامي الذي تقوم التزاماته على أساس تحمل مخاطر التجارة والاستثمار، فكما يحصل تقاسُم الربح يحصل تقاسُم الخسارة إذا قامت المعاملة على أساس الشراكة؛ فالقاعدة أن الغنم بالغرم. ولا يقتصر الأمر على هذا النحو، بل يتحمَّل البنك نتائج الهلاك إذا كان مالكًا واشتملت المعاملة على شيء عقود الاستحفاظ، كما لو كانت المعاملة إجارة ولم يتعدَّ المستأجر أو يفرِّط فيما استحفظ فيه، وكذلك لو كان البنك رب مال ودفع ماله إلى أحد المستثمرين مضاربة، فلا يتحمل المضارب تبعات الهلاك بل هو أمين والبنك متحمل لهذه المخاطر تطبيقا لمبدأ الغنم بالغرم فتقع الخسارة على عاتقه ويتحمل تبعة الهلاك ويتحمل المضارب خطر خسارة أجره فقط، فالمخاطرة موزَّعة بحسب طاقات المستثمرين وبنسب مشاركتهم في النشاط، وكما تجلب لهم نسبهم الأعلى ربحًا أعلى فإنهم كذلك يتحملون بقدرها من الخسارة، ومن لا يملك نسبة يحصل من أجلها على ربح لا يتحمل بذلك شيئًا من الخسارة.
وبصفة عامة يعرف كل طرف من أطراف المعاملة ما له من حقوقٍ وما عليه من واجباتٍ والتزاماتٍ مسبقًا، لكن على أساس أحكام الشريعة ومبادئ الاقتصاد الإسلامي، الذي يمنع الحيل، والغش، ويمنع كل ما يخل بالمبادئ العامة للالتزامات.
والخلاصة: أن البنوك الإسلامية مؤسسات ذات أسسٍ مرجعيةٍ مستقلةٍ نشأت تلبيةً لحاجات الأمة إلى ائتمان نظيف خال من الظلم والاستغلال، فتقدم خدماتها على أساس مبادئ الاقتصاد الإسلامي القائم على تحقيق الربح والتنمية وتصحيح وظيفة رأس المال بتوظيفه في القنوات الاقتصادية؛ توظيفًا يحرِّك النشاط الاقتصادي ويحقِّق التنمية ويضمن بيئة رشيدة لاقتصاد حقيقي.
(1)راجع كتاب المفيد في عمليات البنوك الإسلامية، حمد فاروق الشيخ، بنك البحرين الإسلامي، (ص: 20-22).
(2)الأزمة المالية العالمية 2007–2008: انفجرت في سبتمبر 2008م، واعتبرت الأسوأ من نوعها منذ زمن الكساد الكبير سنة 1929م، ابتدأت الأزمة أولًا بالولايات المتحدة الأمريكية، ثم امتدَّت إلى دول العالم لتشمل الدول الأوروبية والدول الآسيوية والدول الخليجية والدول النامية التي يرتبط اقتصادها مباشرة بالاقتصاد الأمريكي، وقد وصل عدد البنوك التي انهارت في الولايات المتحدة خلال العام 2008م إلى 19 بنكًا، وسبب هذه الأزمة هو التوسُّع في منح الائتمان لشراء العقارات مع تجاهل الكفاءة والقدرة المالية للمموَّلين، الذين سرعان ما تعثَّروا في السداد واضطرت البنوك إلى الحجز على هذه العقارات التي تسببت كثرة المعروض منها في أنها لم تعد تساوي حجم التمويل الممنوح بفوائده، فلحقت الأزمة هذه المؤسسات المالية وتسببت في إفلاس أكبر بنك أمريكي وهو ليمان برازر، كما لحقت هذه الأزمة شركات التأمين التي دخلت في هذه العملية ضد للتأمين ضد مخاطر السداد. ينظر: نظرية الاستحفاظ في الشريعة الإسلامية، دراسة تأصيلية وتطبيقاتها على المؤسسات المالية المعاصرة، محمد السيد علي حامد، رسالة دكتوراه، جامعة المنيا، القاهرة، 2022م (ص: 402).
(3) على غرار الهيمنة التي كان يقوم بها اليهود في البلدان التي يعيشون فيها، حيث يفرضون على أنفسهم عُزلة ويتآمرون فيما بينهم للسيطرة على أصول هذه البلاد وشعوبها عن طريق الإقراض بالربا، ولهذا السبب طرودا من بلاد كثيرة في أوربا، وكان بعضها هذه الطردات بسبب ثورة الجماهيرة عليهم، كما حصل معهم في بريطانيا وأرغم الملك إدوارد على مصادرة أملاكهم في سنة 1041م، وفي يوم تتويج الملك ريتشارد قلب الأسد 1139 م قام الشعب البريطاني بقتل اليهود ومصادرة أموالهم، وهاجر اليهود من بريطانيا ولم يعودوا لها إلا في عهد كرمويل الذي كان من كبار الماسونيين. ودخلوا فرنسا فلم يفق الشعب إلا واليهود يمسكون بثروة البلاد، ونصف مدينة باريس مستودع لعروضهم وتجارتهم، وجميع أملاكه أصبحت مرهونة لدى الطبقة المرابية منهم، مما اضطر الملك فيليب تحت تأثير صراخ الشعب وعويله أن يطرد اليهود من فرنسا وأن يصادر أملاكهم ويلغي الديون. وفي سنة 1306م طردتهم فرنسا من أرضها بعد توسعهم في الربا، وطردوا نهائيا من فرنسا في سنة 1394م على يد الملك شارل. ودخل اليهود أسبانيا وتمتعوا بحرياتهم تامة غير منقوصة غير أنهم سرعان ما استولوا على مرافق البلاد، فإذا بالشعب الأسباني يعمل على طردهم من بلاده، وقد بلغ عدد الذين طردوا من أسبانيا في سنة 1642 م، ما يقرب من 400 ألف يهودي إلى مختلف أنحاء الدولة العثمانية والمغرب الأقصى فاستقبلهم المسلمون بالترحاب. انظر: مقدمة في أصول النظم الاجتماعية والسياسية، أحمد عبد القادر الجمال، النهضة المصرية،
(4) البنوك الإسلامية، محسن الخضيري (ص: 27).
(5) البنوك الإسلامية، محسن الخضيري (ص: 31).