فلسفة الانتفاع بالأموال والملكيات في الاقتصاد الإسلامي
بقلم الدكتور/ محمد السيد علي حامد
للملكية في الاقتصاد الإسلامي أسس فلسفية وتحديدات أخلاقية وتشريعية، تجعلها تدور في إطار الوظيفة الاجتماعية، فالملكية في الاقتصاد الإسلامي ليست مطلقة من كل قيد، وهي شأن كل حق في الشرع لا يعمل إلا ضمن منظومة شاملة من التحديدات والقيود، وعلى وجه الجملة لا يعرف الاقتصاد الإسلامي الملكية إلا ضمن ضوابط تحول بينها وبين الضرر، أو إساءة استخدام المال أو إضاعته على المجتمع، أو الخروج عن الإطار التنموي العام الذي يقرره مقصد الاستخلاف والاستعمار.
مفهوم الملكية وأثر الانحراف في استغلالها
إن الملكية في مفهومها البسيط اختصاص بالشيء، يجعل لصاحبه الحق في استغلال هذا الشيء، أو الانتفاع به، أو إيقاع مختلف التصرفات عليه، وعلماء القانون يقيِّدون هذا الحق بما يأذن فيه القانون من وجوه التصرف والاستغلال والانتفاع.
وما عرفه القانون إنما عرفه بعد عدة تجارب هنا وهنالك تمخض عنها تطورات وصراعات وأنماط من الخروج عن العدل إلى الاستغلال والاحتكار، واعتبار المتأخرين في مضمار الملكية عبيدا أو آلات، ما تسبب في إحن وضغائن ونزعات رأت الانقلاب الكلي على مسيرة الرأسمالية، ولولا أن أرباب الرأسمالية رأوا أن الإصلاح ضرورة لرأب الصدع وللحيلولة بين الدعوات الاشتراكية والتهام رؤوس أموالهم لولا ذلك لما عُرِف هذا النوع من النظم.
أما الإسلام فقد كان أسبق في توجيه الملكية الفردية أو ملكية الأموال لأداء وظائف اجتماعية، فمن اللحظة الأولى وظَّف الاقتصاد الإسلامي الملكية ووجَّهها نحو تحقيق الغايات الكبرى والمقاصد العليا للاقتصاد الإسلامي؛ تلك التي تتمثَّل في الإعمار والتنمية وتحقيق الكفاية، ومن هنا ناسب أن ترتبط الملكية بقيود وحقوق لا تنفكُّ عنها، ما يجعل منها عنصرًا نافعًا لا أداة هدم، وقد يقال كيف يتصور أن تكون الملكية الفردية أداة هدم للمجتمعات؟
والجواب عن ذلك يُعلَم من قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16].
لقد تحدثت الآية الكريمة عن سلسلة من التداعيات الخطيرة يتمثل مبدؤها في الترف الذي يشجِّع على الفسق والفجور، والفسق يجتذب إلى محيط صاحبه مختلف الانحرافات والمنكرات، ويثبِّت بذور الفوضى الأخلاقية والرذائل الإنسانية، وتلك الأمور إذا فشت في مجتمعٍ ما أوهنت من عزيمته وقضت على شوكته، وجعلته عرضة للضياع، فإما أن ينهار كما ينهار البنيان ويتداعى بسبب اختلال الأمن بكل أنواعه، وإما أن يكون المجتمع فريسة لغيره من الأمم المتجبرة التي تسطو عليه وتستغل مقوماته وتستعبد أهله، ويعني ذلك أن الترف أو إطلاق الحرية في الملكيات دون وازع من قانون أو خُلُق سببٌ في انهيار الأمم والدول وتدهور الاجتماع الإنساني.
فحين تخلو الملكيات من واجبات اجتماعية وحين يُطلَق التصرف في المال، تفشو الأثرة ويزداد الكِبْر وتنشأ الطبقات وتوجد الامتيازات، وتصبح موازين المفاضلة بين الناس هي: الثروة والجاه والنفوذ، ومدى القدرة الاقتصادية والموقع الاجتماعي، وفي مقابل ذلك تختفي المعايير الأخلاقية والقيم الإنسانية في تقادير الناس، وفي مثل هذا المجتمع يُلمَز المصلحون بفقرهم وطبقاتهم الاجتماعية، ويتَّهم نبيٌ من الأنبياء بأن الفقراء أتباعه وأن العامة أشياعه؛ كما في قول قوم نوح لهذا النبي الكريم {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [هود: 27]
ولهذا وغيره من الأسباب وعلى رأسها خاتمية هذا الإسلام وخاتمية شريعته، كانت الملكية في الاقتصاد الإسلامي ذات طابع موضوعي ومحددات أخلاقية وقانونية، فليست مطلقة من كل قيد وليست عابرة لكل حد، بل لها أطر وضوابط وحدود، تُوجِد بداخلها الطابع الاجتماعي أو الوظيفة الاجتماعية.
والوظيفة الاجتماعية مصطلح تبلور حديثًا لكنَّ مفهومَه وماهيتَه أمور يعرفها الاقتصاد الإسلامي وهكذا المفاهيم الإنسانية الخالصة توجد في المجتمعات السليمة، وتأتي بها الشرائع العادلة تنبيها على مزيتها ورفعا من قيمتها. فالملكية في الإسلام مرتبطة بالمردود الاجتماعي؛ وذلك ظاهر من خلال نظرية الملكية في الاقتصاد الإسلامي، والتي سيأتي بسطها.
مفهوم الوظيفة الاجتماعية للملكية
يمكن تعريف الوظيفة الاجتماعية للملكية في الاقتصاد الإسلامي بأنها “منظومة تشريعية في استعمال المال توجِّه الملكية للإشباعات المأذونة، التي تحقق مصلحة الفرد ومصلحة المجموع في الوقت ذاته، انطلاقا من مبادئ فلسفية وركائز اجتماعية، رسختها قيم الاقتصاد الإسلامي ومضى عليها المجتمع الإسلامي في شتى عصوره ومختلف أماكنه”.
والفرق بين الاقتصاد الإسلامي وغيره من النظم في الاعتناء بهذه الفكرة أن هذه الفكرة نشأت مع سيادة التشريع الإسلامي، بحيث رافقت ملكية الأموال ولم تكن نتاج صراع اجتماعي ولا حراكٍ ثوري تسببت فيه الأوضاع الاقتصادية التي فشت فيها أثرة النظام الرأسمالي الغربي، والذي ولَّد اتجاهات مختلفة كرد فعل على هذه الآثار الفادحة، فظهرت الاتجاهات الاشتراكية التي أثرت في الاتجاه الرأسمالي نفسه، فبدت هنالك ضرورة لتقييد الملكية أو ربطها ببعض الواجبات، ولو من خلال تقير ضرائب الإيراد والرسوم، ووضع القيود على حرية المالك حال تشغيله لما يملك أو حال تصرفه فيه، وبدأت الأفكار تتهيأ لتقبل الملكية كتكليف اجتماعي لا حق استبدادي.
الأسس الفلسفية للملكية في الاقتصاد الإسلامي
تتكون الفلسفة الإسلامية في الملكية من عدة خطوط عريضة تجسدها المبادئ الآتية:
1. مبدأ ملكية الله المال ملك لله تعالى شأنه شأن كل ما خلقه في السماوات والأرض:
إن مبدأ ملكية الله تعالى للسماوات والأرض وما فيهن ومن فيهن يبدِّد الزعم بأن الملكية الفردية ملكية ظاهرة باطنة، أو ملكية انقطاع وانفصال لا ملكية انتفاع واستغلال، وليس شأن الملكية كذلك في الاقتصاد الإسلامي.
ونصوص القرآن الكريم تؤكد على أن الله سبحانه مالك كل شيء {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر: 62] وإن الله سبحانه وتعالى بخلقه لكل الموجودات هو مالكها الحقيقي فلا يحتاج الأمر لإثبات هاتيك الملكية، ومع ذلك ورد النص على أن الله سبحانه هو المالك الحقيقي {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33] ولعل هذا النص على ملكية الله للمال جاء دفعًا لتوهُّم أن ملكية الإنسان لما تحت يديه ملكية مطلقة. وفي هذه القاعدة يقول الإمام المازري (563هـ) “أن الأعيان لا يملكها على الحقيقة إلا الله تعالى، وإنما تباع وتشترى منافعها“.
في ضوء ذلك يوضح القرآن الكريم كذلك أن علاقة الإنسان بما تحت يده هي علاقة الاستنابة والتفويض في التصرف {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7] والوكيل والنائب لا يعمل إلا وفق توجيهات المستنيب والموكل، ويعني ذلك أن صاحب المال مقيد بما يأمره به الشرع في ماله، فلا يكسب المال من حرام ولا ينفقه في حرام ولا يوجهه إلا لتحقيق مصلحته ومصلحة المجموع، لكن لماذا يوجه المرء ماله نحو مصلحة غيره؟ هذا ما تجيب عنه المبادئ الآتية.
2. مبدأ الإذن بالانتفاع بموارد الطبيعة لكافة البشر
في هذا المبدأ تعيين لأحد الحقوق التي تُكوِّن علاقة الإنسان بموارد الطبيعة، فهو مأذون بالانتفاع بهذا المال في حدود العدل وعدم الجور والإفساد، {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] فجميع المرافق أوجدها الله لجميع بني آدم، ولا اختصاص لبعضهم ببعض ووجوه الانتفاع، وجميع الموارد الطبيعية مهيأة للاستغلال من جميعهم وليست وفقا لصنف على صنف {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية: 13].
وقد ذلَّل الله طرقات الرزق أمام الناس حتى يستطيعوا التوصُّل من خلالها لثمار هذه النعم وحصاد هذه الخيرات {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15].
وفي ضوء هذا المبدأ ثبتت مشاعية الانتفاع بخيرات الطبيعة، لتحصل الكفاية لكل الناس وينعم سائر البشر بنعمة الله وإلا لما كان للامتنان بها موقع. ومن ناحية أخرى فإنه لا يحصل إعمار الأرض الذي أمر الله تعالى به وجعله أحد المقاصد الكبرى {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61] – لا يحصل ذلك إلا بإتاحة الفرصة لجميع البشر للانتفاع من خيرات الطبيعة، واستغلال وسائل الإنتاج المختلفة لأجل الانتفاع بما لا تحصل منه منفعة مباشرة، ولأجل هذا كان واجبًا على كل من تحت يده شيء من الملكيات أو موارد الإنتاج أن يستغلها في تحقيق التنمية والعمارة، وانتفاعه بها داخل في حيز هذه العمارة؛ إذ هو ينفقها في حاجاته لأجل تحقيق البقاء والقدرة على العمل والسعي.
3. مبدأ الإذن بالاختصاص
من نعمة الله تعالى على عباده أن أذن لهم في الانتفاع من خيرات الطبيعة، وأذن لهم كذلك بالاختصاص بما يحرزونه من ملكيات على أساس العمل المؤثر في هذه الملكيات، ومن الملكيات ما لا يحتاج إحرازه إلى كثير عمل فيبقى على الملكية العامة مثل البحار والمحيطات وما فيها، ومنها ما يحتاج إلى عمل كثير أو إلى نفقات للإحياء مثل الأرض الموات، وهذه يكافئ الاقتصاد الإسلامي من يتعرض لإحيائها وتنميتها بتمليكه إياها.
وعلى هذا النحو جرى تَكوُّن الملكيات، وظهر التفاوت فيما بين الناس في ذلك تبعا لاختلاف القدرات والذكاءات والمواهب والطموح المتنامي الذي تساهم الثروات المحرزة في تعزيزه وتنميته في رغبة متزايدة للاستكثار من الأموال، وهي غريزة عبر عنها القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} الفجر:20، وقال: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} العاديات:8، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لاَبْتَغَى ثَالِثًا، وَلاَ يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ»(1).
وقد انعكس تفاوت البشر في الطباع والقدرات والذكاءات والإمكانيات والفرص والخيارات على نوع آخر من أنواع التفاوتات، وهو التفاوت في الأنصبة الاقتصادية والحظوظ الدنيونية، وهو تفاوت لا يقف الاقتصاد الإسلامي موقفا سلبيا دون أن يتدخل بوضع الجسور بين منبعين أحدهما يفيض بالثروة والآخر يعاني جفافا ظاهرًا، أو بالتعبير الاقتصادي الربط بين وحدات العجز ووحدات الفائض. فلم يسمح للمتقدمين في هذا الصدد بأن يستأثروا بخيرات الطبيعة بحجة أن هذا ثمرة عملهم وذكائهم، فإن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق لهم هذا الذكاء، وفاوت بينهم وبين غيرهم فيه بما منحهم من بسطة وسعة في الإدراك، وبما يسره لهم من أسباب للوصول إلى ذلك، ويستلزم ذلك شكر نعمة الله تعالى باتِّباع أوامره والإحسان إلى خلقه بما يناسب حال كلٍّ.
- حكمة تفاوت البشر في الثروات والأموال:
إن كل وضعٍ وُجِد فيه البشر إنما هو وضع ابتلاء وامتحان من الله سبحانه وتعالى، فالغنى ابتلاء لاختبار الشكر، والفقر ابتلاء لاختبار الصبر وتقوية الإرادة وإنهاض الهمم نحو السعي والعمل، والهدف من هذا الابتلاء -علاوة على تمييز الشاكر والصابر من غيرهما- أن يعمل كلٌّ فيما وقع فيه بما يلائم حاله، فمن توفرت له القدرات المادية يستخدمها في إصلاح أحوال الفقراء وتحسين نظم المجتمع الذي يعيش فيه، ويتَّجه الفقير في الوقت ذاته مدفوعا بحاجته لإصلاح نفسه وأهله، ولا ريب في انعكاس ذلك على أوضاع التنمية بتكاتف الأموال والسواعد والجهود نحو تطوير المجتمع والتنمية الاقتصادية.
لا يمكن إذًا أن تكون الحكمة هي مجرد الرغبة في تمييز بعض الناس عن بعض، بل ذلك التمايز أدخل في توزيع الأدوار منه في تمييز البشر؛ والهدف منه أن يحصل التكامل، ويُمتَحن الناس في أخلاقهم فيظهر منهم المحسن والمسيء، والمحسن هو الذي يفهم الحكمة الإلهية ويعمل بأمر الله تعالى، فيفهم مقصد الاستخلاف في المال والاستخلاف على إصلاح الدنيا وكفاية البشر، ويعمل بمقتضى هذا وذلك بماله وملكيته.
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة أولًا، وأشار إلى مواقف مختلفة لبعض البشر حيالها، أما أن الله قد وزع الأرزاق بحكمته؛ فذلك يظهر في قصة قارون {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ} [القصص: 77] فوصف ثروة قارون بأنها إيتاء من الله تعالى له.
وفي موقف صاحب الجنتين {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا} [الكهف: 32] فذكر سبحانه أنه هو الذي جعل هاتين الجنتين بما فيهما لصاحبهما.
وقال تعالى:{وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} [النجم: 48] وأشار إلى أن بسط الرزق وقبضه من فيوضاته قدرته فقال: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 36 – 39]
ولا حصر لهذه الآيات التي تبيِّن أن الإعطاء والمنع بفضل من الله تعالى، ولو شاء سبحانه لم ينعم على ذكي بذكائه فيتركه يتخبَّط في ظلمات الجهل، ولو شاء لم ينعم على غني بغناه فيدفعه إلى أبواب الناس يتكففهم، ولكنه فعل ذلك ابتلاء وامتحانا {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 28] {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن: 15].
وتلك الحقيقة قد يُدركها من ليس من أهل الإسلام، ولا يعرف له غوص في حقائق الدين فعلى سبيل المثال يقول المستثمر الأمريكي وارن بافيت الذي بلغت ثروته 128 مليار دولار “أن وصول ثروته لهذا الكم الهائل به تدخل إلهي وليس فقط لأنه استثمر بذكاء”.
لكنَّ البشر ليسوا جميعا على هذه الوتيرة الواحدة في الاعتراف بأن الإغناء والإفقار قضاء الله أولا، وتمييز وظيفي لابتلاء خلقه في أداء الدور المنوط بهم ثانيا؛ فهناك من يعترف بأن الفضل لله في ذلك كإبراهيم الخليل الذي رد كل شيء لحكمة الله {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 78 – 82] .
ويوسف عليه السلام والذي يقول عما هو فيه من نعم وعطايا: {ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} [يوسف: 38].
وفي المقابل فإن هناك من يزعم أنه مُيِّز بالغنى لأجل امتياز شخصي ومنزلة خاصة يزعمها لدى الله تعالى، كحال صاحب الجنتين الذي يقول: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} [الكهف: 36].
كما أن منهم من يُنكر أن الفضل لله في غناه وثرائه، فيدَّعي أنه اكتسب المال بذكائه وفطنته مثل قارون الذي قال عن ماله وثروته {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: 78].
وفي حديث الأقرع والأبرص والأعمى مثلٌّ واضح للابتلاء في المال، فقد كان كل منهم فقيرًا أغناه الله، مريضًا شفاه الله، فتنكر اثنان منهم وأقر واحد بفضل الله عليه، وأباح للسائل أن يأخذ من ماله ما يشاء، وهذا مثل مطابق لواقع الناس بدلالة القرآن نفسه، يقرر أن توزيع الأرزاق بين الغنى والفقر له حكمة وهدف، هو أن يتكامل الناس وتبقى علاقة الحاجة المتكررة واقعة بينهم، فتنهض الهمم لإعمار الكون وتحقيق التنمية بالسواعد ولأموال.
وقد سبق العلامة ابن خلدون مفكري الاقتصاد الحديث بهذا المعنى حينما قال منذ ما يقرب من ستة قرون: “أنّه قد عرف وثبت أنّ الواحد من البشر غير مستقلّ بتحصيل حاجاته في معاشه وأنّهم متعاونون جميعا في عمرانهم على ذلك والحاجة الّتي تحصل بتعاون طائفة منهم تشتدّ ضرورة الأكثر من عددهم أضعافا. فالقوت من الحنطة مثلا لا يستقلّ الواحد بتحصيل حصّته منه. وإذا انتدب لتحصيله السّتّة أو العشرة من حدّاد ونجّار للآلات وقائم على البقر وإثارة الأرض وحصاد السّنبل وسائر مؤن الفلح وتوزّعوا على تلك الأعمال أو اجتمعوا وحصل بعملهم ذلك مقدار من القوت فإنّه حينئذ قوت لأضعافهم مرّات. فالأعمال بعد الاجتماع زائدة على حاجات العاملين وضروراتهم. فأهل مدينة أو مصر إذا وزّعت أعمالهم كلّها على مقدار ضروراتهم وحاجاتهم اكتفي فيها بالأقلّ من تلك الأعمال وبقيت الأعمال كلّها زائدة على الضّرورات فتصرف في حالات التّرف وعوائده وما يحتاج إليه غيرهم من أهل الأمصار ويستجلبونه منهم بأعواضه وقيمه فيكون لهم بذلك حظّ من الغنى”(2). - الملكية الفردية أهم حوافز التنمية الاقتصادية:
إن الملكية والثروة من أقوى الحوافز على العمل والتنمية؛ ولهذا اختص الله هؤلاء المتقدمين في هذا المجال للعمل في هذه الملكيات؛ ليكون اختصاصهم بالملكية حافزا على القيام بالإعمار فتتحقق التنمية وتتحقق مصالح المتقدمين والمتأخرين على حد سواء. ولو فرض أن تساوى البشر في الملكيات وذُلِّلت صعاب الانتفاع بها مطلقا لما قُدِّر أن تقوم الحضارة والمدنية، ولا حدث تراكم رؤوس الأموال الذي هو مقوم أساسي من مقومات بناء المشروعات الضخمة وتطوير المجتمعات، فالمتأخرون غالبا لا يعنيهم سوى ما يسد الرمق ويحفظ الحياة القريبة، وليسوا بحال من الأحوال مشغولين بالتخطيط والمستقبل كشأن الأولين، وإذا فرض أنهم يفعلون ذلك فإنهم يفعلون جزئيا وتقليدا لهؤلاء الأولين، ثقة بما يقومون به وإيمانا بأنهم يفعلون الصواب، فنحن أمام متبوعين وتابعين، وتلك مسؤولية أخرى أمام هؤلاء المتبوعين توجب عليهم أن يعملوا بالعدل في أموالهم وأن يعرفوا حقوق الناس فيها وأن يوظفوها فيما يعود على أتباعهم بالمصلحة والكفاية.
4. مبدأ المحددات الخلقية للانتفاع بالملكية:
إن التأمل في التمايز بين البشر والتفطُّن إلى وجه الابتلاء في توزيع الأرزاق بين الناس، وطبيعة الاجتماع الإنساني القائم على أساس الحاجة والتعاون، بل إن النزعة الإنسانية الصريحة لتقضي بوجود شيء من التضامن بين مختلف طبقات المجتمع، فبهذا ترقت الإنسانية، وبهذا بلغت المجد الذي بلغته على مدار تاريخها.
لكن الإنسان بما غَلبَ عليه من الأثرة وحب النفس مال إلى الاستبداد بالملكية، وجنح إلى الشُّحّ بالمال، فظهرت نماذج على شاكلة قارون الذي لم يعرف حق المجتمع في ماله، وتكررت هذه النماذج حتى تفشَّى الفقر وعم الظلم، وظهرت الطبقات الاجتماعية وتفاوتت تفاوتًا صارخًا لا يقبله عقل ولا دين، وكان علاج هذه المشكلة في العودة إلى التصورات السديدة وتحديد وظيفة المالك لماله وتأطيره بأطر لا يخرج عنها من العدل إلى الجور ومن الحكمة إلى العبث؛ أملا في تحقيق العدل في استعمال الملكيات؛ ولهذا لم يشأ الشرع الشريف أن يترك هذا المفهوم لخِيَرة المكلَّف أو لبديهة الإنسان فيدركها أو يجهلها، بل بيَّن له في تشريعاته هذه الحقائق، ووضع له من المحددات الأخلاقية والقانونية ما يحول بينه وبين خرم هذا القانون وخرق هذا النظام، فاشتمل الاقتصاد الإسلامي على منظومة متكاملة تحول دون استغلال المال والملكيات الخاصة دون باقي البشر الذين منحهم الله حق الانتفاع بالمال بما أنهم عياله، وبما أنه سخَّر لجميع الناس موارد البر والبحر لذلك.
ولضمان تحقيق هذا الهدف قّيَّد الشرع التصرف في الملكيات والأموال بجملة من القيود الأخلاقية والتشريعية، تضمن تحرك المال في إطار المصلحة، ونحو تحقيق التنمية التي تضمن الإشباع الأمثل لجميع البشر، فليس للإنسان أن يكسب المال من حرام، وليس له أن ينفقه في حرام، وليس له أن يمنع الحقوق عن المستحق، وليس له أن يحيد عن الاعتدال في الانتفاع بالمال.
وقد حدَّد الشرع الشريف قانون الانتفاع على أساس المعيار الخلقي بألا يكون الانتفاع قائما على أساس من الإسراف والتبذير أو القبض والكنز، وكل من هذين التطرفين يقضي على دور الأموال في الدوران؛ فالأول يذهب أصل المال بإهلاكه في فضول الكماليات وموارد الترف، والثاني يحول بين المال وبين الدوران في المجتمع، فتجفُّ القنوات الاقتصادية وتتعطل المكاسب وتسود البطالة، وكل من النوعين يُوغِر الصدور، ويزرع الإِحَن بين أفراد المجتمع ويشعل الصراع الطبقي ويجعل الأنفس متقدة على أصحاب الأموال.
إن القبض والبسط السفهي كل منهما يترافق مع فقر المجتمعات وغياب التنمية الحقيقية، غير أن السرف على وجه الخصوص يرتبط بخَوَر في العزائم وميل إلى الشهوات وضعف في الصبر، وتلك أمور مهلكات إذا استشرت في مجتمع من المجتمعات كانت جرثومة نهايته كما يفيده قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16]، والترف عادة ما يَشيع في مجتمع مريض متهالك؛ وآية ذلك أن المترفين هم عادة من أوائل المناوئين للدعوات الإصلاحية ولو كانت دعوة نبي؛ لأن الدعاوى النبيلة والنزعات السامية تحتاج إلى فداء وتضحية، وبلاء وبذل، وتلك خصال لا يقدر عليها المترف، وفي المقابل كان أتباع النبيين من الفقراء، بل كان المترفون يزعمون أن هذا أحد عيوب الدعوات الصالحة {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [هود: 27].
5. مبدأ المحددات التشريعة للانتفاع بالملكية:
لا يقف تحديد الاقتصاد الإسلامي للتصرف الأمثل في الأموال والملكيات عند حد الوصايا والتوجيهات الخلقية التي قد يعمل بها المكلف أو يتجاهلها، بل امتد تنظيم التصرف إلى حد التشريع التنفيذي الإيجابي، وامتدت الرقابة إلى خارج المجال الذاتي إلى المجال المجتمعي، فخوَّل للمجتمع سلط مراقبة أصحاب الثروات، ومنح ولي الأمر سلطة نزع تلك الملكيات التي لا يراعي فيها أصحابها فلسفة الاقتصاد الإسلامي العليا، فأجاز الحجر على السفيه حفاظا على مادة أموال الأمة {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [النساء: 5].
كما ربط بين هذه الملكيات وبين جملة من الحقوق الواجبة فيها، بحيث لا تبرأ ذمة المالك ما لم يؤدِّ هذه الحقوق، كما أناط بأولياء الأمور سلطة التنفيذ على من لا يؤدي زكاة ماله ولا ينفق على ذويه، ولا يقوم بحق الفقير والمسكين ولا حق من هو داخل تحت ولايته، وتلك الجوانب التشريعة تمنح الملكية صفة الانضباط القانوني، فلا تجعلها تحت مشيئة المالك وأريحيَّته، بل تجبره على القيام بصالح نفسه وصالح أسرته وصالح مجتمعه عند استغلال هذه الملكية.
وهكذا يؤسس الاقتصاد الإسلامي تصوره عن الملكية على أسس فلسفية وأخلاقية وتشريعية، تقود الملكية إلى أداء دورها الاجتماعي، وتحقيق الأهداف الكبرى التي يتوخاها وهي تحقيق التنمية الشاملة لتوفير كفاية الأفراد وتحقيق العمارة على كافة المستويات، ولأجل هذه المبادئ التي تقوم عليها الملكية في الاقتصاد الإسلامي فإنه – أي: الاقتصاد الإسلامي – لا يقر ملكية نشأت من حرام، ولا يحترم ملكية استبدَّ بها صاحبها فأسرف على نفسه أو قبض يده عن الإنفاق والعمل، أو قطع صلاتِه عمن تجب عليه مؤنتُه، فالملكية الخاصة ليس ملكية مقطوعة لصاحبها بل هي ملكية ينتفع بها جميع الناس، أما صاحبها فينتفع بها انتفاع مباشرة، وأما باقي المجتمع فيتفع بها انتفاع وساطة؛ إذ هي في كل الأحوال جزء من مالهم الذي يدور في قنوات الاقتصاد ويغذِّي تربته فتنبت فيها ثمار التنمية ما دار هذا المال وما تسرب في تربة الاقتصاد القومي؛ ولهذا وصف القرآن الكريم أموال الأفراد بأنها أموال الأمة وقوام حياتهم {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5].
(1) أخرجه البخاري (8/ 92) حديث رقم (6436).
(2) تاريخ ابن خلدون (1/ 450).