قاعدة: “ما حُرِّم سدًّا للذريعةِ أُبيحَ للمصلحةِ الراجحةِ”، وآثارها في العقود المالية
بقلم الدكتور/ عبد الناصر حمدان بيومي
هناك مجموعة من القواعد الضابطة للعقود المالية التي تبين حدودها، وتكشف عن حالات الترخص للمصلحة بمراتبها المختلفة، وما يتسق مع كل مرتبة منها من الرخص، وما يتسق مع بعض المراتب دون بعض، وضابط الترخص في المحرمات من جهة المقاصد، والمحرمات من جهة الوسائل؛ لئلا يحصل التساهل أو التشدد أو الخلط في بعض العقود المالية المحرمة بسبب عدم التفريق في تحريمها بين تحريم المقاصد والوسائل، وتفاوت مرتبة المصلحة التي تبيح الترخص في كل منها؛ مما استدعانا لتناول هذه القاعدة، وبيان آثارها في العقود المالية.
أولاً: المفاهيم الأساسية:
الوسائل والذرائع لغة: هي الأسباب والطرق المفضية إلى المقاصد. والذريعة اصطلاحًا: “هي الفعل الذي ظاهره أنه مباح وهو وسيلةٌ إلى فعل المحرَّم”.(1)
والذرائع تكشف عن الوسائل التي يسلكها المكلف مختارًا لتحقيق مصلحة، أو مفسدة؛ فإذا أدت الذريعة إلى مصلحة فإنها تكون واجبة أو مستحبة أو مباحة، وإذا أدت إلى مفسدة فتكون محرمة أو مكروهة، وذلك بحسب درجة المصلحة والمفسدة في الحالات السابقة.
وسدُّ الذريعة: هو منع الوسيلة التي ظاهرها الإباحة؛ وتفضي غالبًا إلى مفاسد راجحة. فالوسائل والذرائع من حيث أصلها مباحة، والفعل المتوسل إليه محرم في الشرع، والوسيلة في غالب الظن تفضي إلى مفسدة راجحة.
والفرق بين الذريعة والحيلة: “أن الحيلة يُقدِم عليها الإنسان قاصدًا التخلَّص من واجب أو ارتكاب محظور، أما الذريعة فقد لا يكون قاصدًا إلى ذلك إلا أن الشرع يَسدُّ عليه منافذ الحرام.(2)
والمقاصد: هي الغايات التي وُضعت الوسائل لتحقيقها، فالوسائل أخفض رتبة من المقاصد، ولهذا اغتفر فيها ما لا يغتفر في المقاصد. والمصلحة الحاجية: هي “المفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب، فيلزم عن عدم مراعاتها مشقة غير معتادة(3)، كما تحصل المشقة بسبب ترك الأخذ بالوسيلة.
والتحريم في الشريعة على قسمين:
أحدهما: تحريم مقاصد، وهي الأفعال التي حرمها الشارع لمفاسدها الذاتية، وثبتت حرمتها بنص قطعي الثبوت والدلالة، ولا تبيحها إلا الضرورات التي تبيح المحظورات. فلا يجوز فعلها لمجرد الحرج أو المشقة غير المعتادة، وإنما يقع ذلك حال التزاحم بينها وبين مصلحة ضرورية مقدمة عليها؛ كأن يتعارض محرم لذاته فيه مفسدة تتعلق بحفظ المال كالاقتراض بالربا، مع مصلحة تتعلق بحفظ النفس كالهلاك جوعًا أو مرضًا، فتقدّم مصلحة حفظ النفس على المفسدة المتعلقة بالمال. فمن خشي على نفسه من الهلاك جوعًا أو مرضًا ولم يجد سبيلاً لإنقاذ حياته إلا بالاقتراض بالربا؛ جاز له ذلك تقديمًا لمصلحة حفظ النفس على مفسدة الاقتراض بالربا.
والآخر: تحريم وسائل وذرائع، وهي الأفعال التي حرمها الشارع لغيرها، باعتبارها وسائل مفضية إلى المحرم لذاته، فليس فيها مفسدة ذاتية، ولكنها تفضي غالبًا إلى المفسدة، ولهذا فإنها تباح للحاجة أو المصلحة الراجحة…
ثانيًا: بيان نص ومقصود القاعدة:
القاعدة بنصها وتفريعاتها وصيغها أوردها ابن القيم مع العديد من تطبيقاتها، ونصها: “مَا حُرِّمَ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ أُبِيحَ لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ”، ومن صيغها: “ما حرم تحريم الوسائل، فإنه يباح عند الحاجة والمصلحة الراجحة”.(4)
والمقصود من القاعدة: أن الشريعة تغتفر في الأفعال المحرمة تحريم وسائل ما لا تغتفره في الأفعال المحرمة تحريم مقاصد، فالأفعال المحرمة لذاتها تحريم مقاصد لا يجوز الإتيان بها إلا عند الضرورة القصوى، وأما الأفعال المحرمة تحريم وسائل التي هي موضوع قاعدتنا، فإنه إذا عارضتها مصلحة من المصالح الحاجية الراجحة المتعين فعلها، فإنه يجوز الإتيان بها لتحقيق هذه المصلحة؛ وفقًا للقاعدة.
وأقرب مثال للقاعدة: الصغائر والكبائر، فالشارع لم يُشدِّد في الصغائر كما شدد في الكبائر؛ لأن الكبائر محرمة تحريم مقاصد؛ كتحريم القتل والسرقة والزنا؛ لما تتضمنه من مفاسد ذاتية كضياع النفس والمال والنسل، وأما الصغائر فمحرمة تحريم وسائل؛ كالنظر إلى الأجنبية والخلوة بها، فحرمتها ليس لمفسدة ذاتية واقعة بل متوقعة، وهي أنها قد تفضي إلى الوقوع في الزنا، ولذا فإنه يغتفر في الوسائل ما لا يغتفر في المقاصد، ومن هذا الباب أباح الشارع للخاطب والطبيب والقاضي النظر إلى المرأة الأجنبية وهو محرم تحريم وسائل؛ فأبيح تحقيقًا للمصلحة الحاجية الراجحة، وهي الخطبة والتداوي والشهادة.
قال ابن تيمية: “وما كان منهيّا عنه لسدّ الذريعة، لا لأنه مفسدة في نفسه، يشرع إذا كان فيه مصلحة راجحة، ولا تفوّت المصلحة لغير مفسدة… وهذا أصل لأحمد وغيره: في أن ما كان من “باب سد الذريعة” إنما ينهى عنه إذا لم يحتج إليه، وأما مع الحاجة للمصلحة التي لا تحصل إلا به وقد ينهى عنه، ولهذا يفرق في العقود بين الحيل وسد الذرائع: فالمحتال: يقصد المحرم فهذا ينهى عنه. وأما الذريعة: فصاحبها لا يقصد المحرم لكن إذا لم يحتج إليها نهي عنها، وأما مع الحاجة فلا”.(5)
ولهذه القاعدة آثار عملية مهمة في التمييز بين الوسائل والمقاصد، وكذلك الموازنة والترجيح بين المصالح والمفاسد ظاهرة التعارض عند التزاحم.
وذلك أن بعض الوسائل قد تفضي إلى الحرام، لكنها في الوقت ذاته وسيلة لمصلحة تربو على مفسدة الفعل المحرم، فيجوز فعلها من هذا الباب، قال العز بن عبد السلام: “قد تجوز المعاونة على الإثم والعدوان والفسوق والعصيان لا من جهة كونه معصية، بل من جهة كونه وسيلة إلى مصلحة. وله أمثلة منها: ما يبذل في افتكاك الأسارى فإنه حرام على آخذيه مباح لباذليه. ومنها: أن يريد الظالم قتل إنسان ومصادرة ماله، ويغلب على ظنه أنه يقتله إن لم يدفع إليه ماله، فإنه يجب عليه بذل ماله فكاكًا لنفسه. ومنها: أن يكره امرأة على الزنا ولا يتركها إلا بافتداء بمالها أو بمال غيرها فيلزمها ذلك عند إمكانه. وليس هذا على التحقيق معاونة على الإثم والعدوان والفسوق والعصيان، وإنما هو إعانة على درء المفاسد فكانت المعاونة على الإثم والعدوان والفسوق والعصيان فيها تبعًا لا مقصودًا”.(6)
بقيت الإشارة إلى: أن درجة المصلحة التي تبيح الإتيان بالفعل المحرم سدًّا للذريعة هي المصلحة الحاجية الحقيقية، وليست المصلحة التحسينية الترفيهية، أو المصالح المتوهمة الملغاة غير المعتبرة.
هذه هي المفاهيم الأساسية لقاعدة التحريم سدًّا للذريعة، ونصها والمقصود بها، وأما تطبيقات القاعدة في العقود المالية، فهو ما سنتناوله في المقال التالي.
(1) الفتاوى الكبرى، لابن تيمية: 6/172.
(2) انظر: قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي رقم: 92 (9/9) بشأن سد الذرائع.
(3) انظر: الموافقات، للشاطبي: 2/21.
(4) انظر: إعلام الموقعين: 2/108، روضة المحبين: 95.
(5) مجموع الفتاوى: 23/214-215.
(6) قواعد الأحكام في إصلاح الأنام: 1/129.