مبدأ التعويض عن الضرر صيانة للملكية العامة والخاصة
بقلم الأستاذ الدكتور/ عزُّ الدِّين بن زغيبة
أستاذ الفقه والأصول والمقاصد
ورئيس هيئة الرقابة والفتوى في عدد من المصارف الإسلامية
كما حرصت الشريعة على حماية الأموال والتصرفات المرتبطة بها من أي ضرر متوقع، وذلك بوضع جملة من الشروط والأحكام الوقائية، فإنها كذلك حرصت على رفع كل ضرر واقع يلحق الأموال أو الأشخاص المتصرفين فيها، وذلك بجبره والتعويض عنه والعقاب عليه؛ ولأجل ذلك شرع باب الضمان. وهو عند الفقهاء على نوعين، فمنه ما يجب بالتعدي، ومنه ما يجب للمصلحة العامة وحفظ الأموال.
أما النوع الأول: الضمان الذي يجب بالتعدي:
فقد ذكر له الفقهاء ثلاثة أسباب هي:
- اليد المعتدية؛ كالغصب.
- الإتلاف، وذلك بمباشرة السبب الذي يقتضيه كإحراق الثوب وقتل الدابة وهدم المنزل وغيرها.
- التسبب في الإتلاف بتنصيب سبب عدواناً فيحصل به الإتلاف، وذلك كأن يحفر بئراً في غير ملكه عدواناً حتى تقع فيه دابة فلان، أو ماشيته، أو يؤجج ناراً في يوم ريح عاصف فتتعدى إلى إتلاف مال الغير.
والإتلاف بجميع أنواعه سواء كان إتلافاً له صورة ومعنى بإخراج الشيء عن كونه صالحاً للانتفاع، أو معنى بإحداث معنى فيه يمنع من الانتفاع به مع قيامه بنفسه حقيقة، فكل ذلك يعد اعتداء وإضراراً في نظر الشريعة ويجب الضمان على المتسبب فيه.
ووجه جبر الضرر بالضمان، هو أن إتلاف الشيء إخراج له من أن يكون منتَفعاً به منفعة مطلوبة منه عادة، وهذا فيه اعتداء وإضرار، ولما كان نفي الضرر من حيث الصورة متعذِّراً وجب نفيه من حيث المعنى بالضمان، ليقوم الضمان مقام المتلف فينتفي الضرر بالقدر الممكن.
ومن تمام حرص الشريعة على نفي كل ضرر عن الأموال بحسم مادته وقطع مسالكه؛ أنها جعلت الخطأ في ضمان المتلفات كالعمد فيها، وبناء على هذا المعنى قرر الفقهاء القاعدة الفقهية القائلة: (العمد والخطأ في ضمان المتلفات سواء إذا كان المتلِف مميزاً بالفعل)(1)؛ وذلك لأن الضمان مرتب على نفس الفعل سواء قصد فاعله أو لم يقصد.
وما أوجبته الشريعة من تضمين المخطئ والناسي والمكره لما أتلفوه ليس عقوبة لهم؛ لأن الضمان ليس تابعاً للمخالفة وكسب العباد، بل شُرِع لتدارك المصالح الفائتة أو جبرها، ومنع الناس من إتلاف مال بعضهم بعضاً بحجة الخطأ والنسيان والإكراه وغير ذلك.
وتحدث ابن القيم عن سبب تضمين المخطئ كالمتعمد وعدم مؤاخذاته بالإثم فقال: (فالخطأ والعمد اشتركا في الإتلاف الذي هو علة للضمان، وإن افترقا في علة الإثم، وربْطُ الضمان بالإتلاف من باب ربط الأحكام بأسبابها، وهو مقتضى العدل الذي لا تتمُّ المصلحةُ إلا به، كما أوجب على القاتل خطأ ديَّةَ) (2).
ولما كان تشريع الضمان مبنيًّا على إقامة حفظ المال ونفي الضرر عنه، كان الإنسان ممنوعاً من أن يجاوز به قدر ما يناسب الشيء المضمون؛ لأن أي تجاوز يُعدُّ خرماً لمقصد حفظ المال من حيث أريد إقامته به، ولذلك ربط الفقهاء الضمان بمقدار الفساد اللاحق بالأعيان والمنافع.
قال ابن حارث الخشني: (كل ما أفسد لرجل شيئاً من العُروض والأمتعة ينظر فيه؛ فإن كان الفساد يسيرًا رفاه وشعَّبه ثم كان عليه ما نقصه، وإن كان فساداً كبيراً كان صاحبه بالخيار إن شاء ضمنه قيمته، وإن شاء ضمنه ما نقصه، وعلى هذا الضابط تقاس الوقائع والنوازل) (3).
ويندرج تحت هذا الباب ما قاله ابن القاسم: (في البقرة والشاة والدابة تدخل في الليل زرعاً فتفسد فيه ما هو أكثر من قيمتها أضعافاً أن ذلك على أربابها؛ لأن عليهم حفظها، فكانوا كأنهم أرسلوها عليهم حين لم يحفظوها بالليل، كما أمر في الحديث (أن على أصحاب الحوائط حفظها بالنهار وأن على أهل المواشي ما أفسدت بالليل(4)) (5).
ومن تمام عدل الشريعة في هذا الباب أنها كما حفظت أموال المسلمين حفظت أموال الذميين وأوجبت الضمان على من أتلفها من المسلمين، حتى ولو كان المتلف مما لا يجوز امتلاكه في شريعتنا، قال ابن حارث الخشني (من تعدى على ذمي فكسر له خمراً أو قتل له خنزيراً وجب عليه قيمة ذلك)(6).
النوع الثاني: وهو ما يجب للمصلحة العامة وحفظ الأموال:
ويقع هذا النوع من الضمان برضا الداخل في الالتزام الذي يترتب عليه ذلك الضمان، ويندرج تحت هذا المعنى تضمين الصناع؛ لأن الأصل في الصناع أن لا ضمان عليهم، وأنهم مؤتمنون لأنهم أجراء، ولا خلاف بين الأئمة أن الأجير ليس بضامن ما هلك عنده مما استؤجر عليه إلا أن يتعدى.
إلا أن مالكاً وأصحابه قد ضمنوهم نظراً واجتهاداً، قالوا: إن الصناع ضامنون ما استصنعوا فيه إذا نصبوا أنفسهم لذلك، سواء عملوا ذلك بأجرة أو بغير أجرة، ولا يُقبل منهم دعوى التلف بحال إلا إذا قامت لهم على ذلك بينة فيسقط عنهم التضمين.
وأما ما استعملوا فيه ولم ينقلوه إلى مواضعهم بحيث يغيبون عنه فلا ضمان عليهم فيه، وكذلك الصانع الخاص الذي لم ينصب نفسه للعمل لا ضمان عليه أيضاً فيما استعمل فيه، سواء أُسلِم إليه أو عمله في منزل ربه.
وقال مالك: (وإذا اشترط الصانع أن لا ضمان عليه لم ينفعه شرطه وكان عليه الضمان) (7).
وإضافة إلى تضمين الصناع فقد قالوا بتضمين حامل الطعام والإدام على كل حال، ولو لم يكن منه غرر ولا تفريط، إذا لم تقم له بينة على تلفه، مع أن الأصل عدم الضمان على الأجير على الحمل إلا أن يتعدى أو يفرط، وعللوا هذا الحكم بمسيس حاجة الناس إلى الطعام وضرورتهم إليه، ولو ترك حاملوه من غير تضمين لتسارعوا إلى أخذه، إذ لا بدل عليهم فيه، فيؤدي ذلك إلى امتناع الناس من الحمل معهم وتدخل المضرة على الفريقين فيضمنوا دفعاً لها.
والذي تبين لي من خلال المسائل السابقة أن الذي أدى بالإمام مالك وأصحابه إلى الحكم بتضمين الصناع واستثنائهم من الأصل المندرجين تحته هو إقامة مقصد الشريعة في حفظ الأموال وإبعادها عن الضرر، وتحقيق المصلحة العامة المبنية على رعاية ضرورة الناس ومسيس حاجتهم لاستصناع أموالهم لدى الصناع المنتصبين لذلك، وألحق العلماء من بعدهم كل من شارك الصناع في المعنى من الأجراء فحكموا بتضمينهم؛ كحامل الطعام والسمسار، وأدخل الفقهاء في هذا النوع من الضمان المرتهن والمستعير فيما يغاب عليه، والكفيل إذا قبض الدين من صاحبه على وجه الاقتضاء .
(1) ينظر: القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب الأربعة، للزحيلي (1/ 607)
(2) إعلام الموقعين عن رب العالمين (3/ 421).
(3) ينظر: أصول الفتيا، لابن حارث الخشني (ص: 389).
(4) أخرجه أبو داود، أبواب الإجارة، باب المواشي تفسد زرع قوم (3/ 298) حديث رقم (3569) من حديث سعد بن محيصة أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائط رجل فأفسدته عليهم، «فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الأموال حفظها بالنهار، وعلى أهل المواشي حفظها بالليل». صححه ابن حبان ينظر: صحيح ابن حبان (13/ 354) حديث رقم (6008).
(5) ينظر: البيان والتحصيل (9/ 211).
(6) ينظر: أصول الفتيا، لابن حارث الخشني (ص: 432).
(7) ينظر: التاج والإكليل لمختصر خليل (6/ 576).