منع الاحتكار وأثره في تأمين النشاط الاقتصادي

بقلم الأستاذ الدكتور/ عزُّ الدِّين بن زغيبة
أستاذ الفقه والأصول والمقاصد
ورئيس هيئة الرقابة والفتوى في عدد من المصارف الإسلامية

إن تحقيق الأمن للنشاط الاقتصادي في أي أمة يعزِّز في أفرادها روح المبادرة والابتكار، ويزيد في قوة الفاعلية والأداء لديهم ويكسبهم القدرة على التحمُّل، كما أنه يعزِّز في الوقت نفسه النمو الاقتصادي والتنمية المستدامة.
ولا يمكن أن يتَّصف أي اقتصاد بالفاعلية وبالإنسانية ما لم تتوفر فيه تدابير وإجراءات كافية لتأمين نشاطات الفاعلين فيه والمحركين له؛ حيث يكون بمقدور الناس أن يستجيبوا لتحديات الحياة، ويتكيَّفوا مع التغيُّرات الاقتصادية والاجتماعية التي تحيط بهم، ويدرؤوا عن أنفسهم خطر الكوارث والآفات، ويتمكَّنوا من تنمية إمكاناتهم البشرية لتوفير حياة أفضل وسبل معيشة أكثر أمانا, في ظل اقتصاد يدعم الاستقرار الاجتماعي الذي يُكسِب الوطن حصنًا منيعًا من أي خطر داخلي أو تهديد خارجي.
وبناءً عليه كان لمقصد الأمن في النشاط الاقتصادي أثرٌ بالغٌ في سلاسة ذلك النشاط وسيرورته بيسر وسهولة؛ سواء من جهة رواج السلع والخدمات وانتعاش الأسواق وازدهارها، أو حركة رأس المال بكامل حريته دون خوف من أمر واقع، أو هاجس من أمر متوقَّع.
ويُعتبر الاحتكار من أبرز القضايا التي تقف عائقًا في وجه تأمين النشاط الاقتصادي، وتحقيق الوفرة المطلوبة في الأسواق لتيسير حياة الناس، وتحقيق الرفاهية في معيشتهم.
إن جريمة الاحتكار من أكـثر الجرائم قِدَمـًا وأبـعدِها إيغالًا في تاريـخ التبادل التجاري البشري، نظرًا لارتباطها بالمعاملات اليومية للناس كافّة، والمتعلِّقة بالبيع والشراء للسلع الضرورية والحاجية والكمالية.
والمقصود بالاحتكار: “اختزان السلعة وحبسها عن طلابها، والتربُّص بها حتى يتحكَّم المختزن في رفع سعرها؛ لقلَّة المعروض منها وانعدامه فيتسنّى له أن يُغليّها كيفما شاء”.
والاحتكار بهذا المعنى: منع السلع الضرورية لحياة الناس, وما يحتاجون إليه, من الوصول إلى أسواق الاستهلاك, كما أنَّه عملٌ مضادٌّ لتحقيق مقصد رواج الأموال وتداولها ودورانها بين أيدي الناس, فالاحتكار إذن أمرٌ يهدِّد أمن وسلامة المجتمع إلى حد كبير، وله تأثيراتٌ سلبية على النشاط الاقتصادي وكذلك على الناحية الاجتماعية برمَّتها, بل إن بعض الدول الكبرى أصبحت تستخدم أسلوب الاحتكار من أجل التحكُّم في الشؤون السياسية والاقتصادية بل الاجتماعية, مما يؤدّي إلى انخرام السيادة الوطنية أو تلاشيها.
ومن هنا جاءت النصوص الشرعية ناهيةً عن هذا التصرف ومحذِّرة من عواقبه الأخروية, حيث قال صلى الله عليه وسلم: «لَا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِئٌ»(1). وقال صلى الله عليه وسلم: «الْجَالِبُ مَرْزُوقٌ، وَالْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ»(2). وجاء عن مالك, أنه بلغه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: “قَالَ: لاَ حُكْرَةَ فِي سُوقِنَا. لاَ يَعْمِدُ رِجَالٌ، بِأَيْدِيهِمْ فُضُولٌ مِنْ أَذْهَابٍ، إِلَى رِزْقٍ مِنْ رِزْقِ اللهِ نَزَلَ بِسَاحَتِنَا. فَيَحْتَكِرُونَهُ عَلَيْنَا. وَلَكِنْ أَيُّمَا جَالِبٍ جَلَبَ عَلَى عَمُودِ كَبِدِهِ فِي الشِّتَاءِ، وَالصَّيْفِ. فَذلِكَ ضَيْفُ عُمَرَ. فَلْيَبِعْ كَيْفَ شَاءَ اللهُ. وَلْيُمْسِكْ كَيْفَ شَاءَ اللهُ(3). وعن مالك أنه بلغه أن عثمان بن عفان رضي الله عنه كان ينهى عن الحُكرة(4).
وفي سُلَّم هذه المعاني يندرج ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ فَرَأَى طَعَامًا مَنْثُورًا، فَقَالَ: مَا هَذَا الطَّعَامُ؟، قَالُوا: جُلِبَ مِنْ أَرْضِ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: بَارَكَ اللهُ فِي هَذَا الطَّعَامِ وَمَنْ جَلَبَهُ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ احْتَكَرَهُ فَرُّوخٌ وَفُلَانٌ مَوْلَى عُمَرَ، فَدَعَاهُمَا، فَقَالَ: مَا حَمَلَكُمَا عَلَى احْتِكَارِ طَعَامِ الْمُسْلِمِينَ؟ فَقَالَا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ نَشْتَرِي بِأَمْوَالِنَا وَنَضَعُ، فَقَالَ عُمَرُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنِ احْتَكَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ طَعَامَهُمْ، ضَرَبَهُ اللَّهُ بِالْجُذَامِ وَالْإِفْلَاسِ»(5).
فقول الصحابيين: نشتري بأموالنا ونبيع سببه أنهما كانا يريان أن هذا العمل مما تقتضيه حرية التصرُّف في أموالهما, وليس لأحد تقييدها, حتى ولو كان ولي الأمر, فرد عليهما عمر رضي الله عنه بقوله صلى الله عليه وسلم بالرد السابق الذكر.

موقف الاقتصاد الإسلامي من الاحتكار والمحتكرين:

وانطلاقًا من هذه النصوص وأمثالها, اتَّفق علماء الأمة على منع الاحتكار في الأقوات وما يحتاج إليه الناس من الطعام ما أضرَّ ذلك بهم, ووجه ذلك عندهم: أن هذا مما تدعو الحاجة إليه لمصالح الناس, فوجب أن يُمنع من إدخال المضرة عليهم باحتكاره.
بل أجازت الشريعة لولي الأمر أن يُكرِه المحتكرين على بيع ما عندهم بقيمة المثل عند ضرورة الناس إليه, مثل من عنده طعامٌ زائدٌ عن كفايته وكفاية من يعولهم, فهو لا يحتاج إليه والناس في مخمصة.
ووسَّع المالكية والظاهرية وأبو يوسف من الحنفية والثوري من سلطة ولي الأمر في تقييد حرية التصرُّف في هذا الباب, وذهبوا إلى أن الحُكرة إذا أضرَّت بأهل البلد فإنها تُمنَع في كل ما لهم حاجة إليه, وضرورةٌ إلى شرائه وكثرته, سواء كان طعامًا أو ثيابًا أو أي شيء كان من أنواع الأموال.
وإن كان التاجر جالبًا للسوق من غير أهل البلد فهذا لا يُتعرَّض له، ولا يُجبر على بيع سلعته, ولا يُمنع من اختزانه وحُكرته؛ لأنه لم يضرَّ الناس ولا رفع عليهم سِعرًا, ولا استبدّ بشيء كان لابد أن يساويهم فيه, بل في منعه من ذلك إضرارٌ به وتعدٍّ عليه؛ لأنه إنما تكلَّف جَلْبَه وسافر في تخليصه ليبقيه لنفسه، فليس لأحد الاعتراض عليه, ومستند هذا قول عمر رضي الله عنه: “وَلَكِنْ أَيُّمَا جَالِبٍ جَلَبَ عَلَى عَمُودِ كَبِدِهِ فِي الشِّتَاءِ، وَالصَّيْفِ. فَذلِكَ ضَيْفُ عُمَرَ. فَلْيَبِعْ كَيْفَ شَاءَ اللهُ. وَلْيُمْسِكْ كَيْفَ شَاءَ اللهُ(6).
ويرى ابن العربي: أن هذا الحكم الخاص بالجالب مبني على قاعدة المصلحة (مصلحة رواج الأموال والسلع اللازمة لحاجة الناس), فلو قيل للجالب – كما يقال للرجل من أهل السوق – إما أن تبيع بسعرنا , وإما أن تقوم من سوقنا, لانقطع الجلب واستضر الناس، وعلى هذا انبنت مسألة التسعير، ولما لاحظ ابن حبيب من أصحاب مالك – رضي الله عنه- هذه المصلحة وفهم المقصود قال: “إن الجالب للطعام لا يمكن أن يبيع إلا بسعر الناس، ما خلا القمح والشعير, فإنه يكون فيه بحكم نفسه للحاجة ولتمام المصلحة بهما”(7).
فتحريم الاحتكار ومنعه من قبل الشريعة سببه كما ظهر أنه يؤدي إلى أمور لا تُحمَد عقباها، من تضخُّم، ورداءة السلع، وإهدار صحة المستهلكين، إلى جانب الضرر المباشر الذي يقع على النشاط الاقتصادي للناس، كما أن فيه حدًّا من حرية تدفق المنتجات إلى الأسواق، وعرقلة أصحاب القدرات الذين يريدون المنافسة في المجالات المختلفة, ناهيك عن الفساد الاجتماعي الذي يتسبب فيه من انتشار الرشوة، وذلك بما يبذلونه من أموال طائلة؛ كيلا يدخل غيرهم في السوق مما يؤدي إلى ظهور الطبقية في المجتمع، وشيوع الكراهية المفضية لاختلال الأمن الاجتماعي.

(1) أخرجه مسلم، كتاب: المساقاة، “باب تحريم الاحتكار في الأقوات” حديث رقم (1605) (3/1227).
(2) أخرجه ابن ماجه، كتاب التجارات، باب الحكرة والجلب (2/ 728) حديث رقم (2153)، وقد روي من طرق مختلفة يتقوى بعضها ببعض فيحسن الحديث كما قال ابن كثير. انظر: مسند الفاروق (2/ 23).
(3) موطأ مالك (4/ 942) (2398).
(4) موطأ مالك (4/ 943) برقم (2400).
(5) أخرجه أحمد (1/ 283) حديث رقم (135) وابن ماجه، كتاب التجارات، باب الحُكرة والجلب، حديث رقم «2155» (3/ 283)، بدون القصة المذكورة، وصححه البوصيري في مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه» (3/ 11)، وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في الفتح (4/ 348): «رواه ابن ماجه وإسناده حسن»، وأخرجه بالقصة المذكورة البيهقي في شعب الإيمان، حديث رقم (10705) (13/ 513).
(6) أخرجه أحمد (1/ 283) حديث رقم (135) وابن ماجه، كتاب التجارات، باب الحُكرة والجلب، حديث رقم «2155» (3/ 283)، بدون القصة المذكورة، وصححه البوصيري في مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه» (3/ 11)، وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في الفتح (4/ 348): «رواه ابن ماجه وإسناده حسن»، وأخرجه بالقصة المذكورة البيهقي في شعب الإيمان، حديث رقم (10705) (13/ 513).
(7) القبس في شرح موطأ مالك بن أنس (ص: 838).

Comments are disabled.