مبدأ منع إلحاق الضرر بالأموال والحقوق في الاقتصاد الإسلامي

بقلم الأستاذ الدكتور/ عزُّ الدِّين بن زغيبة
أستاذ الفقه والأصول والمقاصد
ورئيس هيئة الرقابة والفتوى في عدد من المصارف الإسلامية

سعت الشريعة إلى حسم مادة الضرر عن جميع تصرفاتها واعتبرته أحد أهم مقاصدها، وهو ما يتضح لنا من خلال إقرارها للأصل العام الذي نص عليه قوله صلى الله عليه وسلم: “لا ضرر ولا ضرار”(1)، وتؤيده جملة من النصوص الجزئية التي نص عليها القرآن الكريم في تصرفات مختلفة، منها قوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231]، وقوله: {وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6]. وقوله: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} [البقرة: 233]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ ضَارَّ أَضَرَّ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ شَاقَّ شَاقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ»(2).
وانطلاقاً من هذه الأدلة الكلية والجزئية قرر الفقهاء القاعدة الكلية (الضرر يزال) (3)، وأدرجوا تحتها جملة من القواعد الجزئية التي تفصل كيفيات دفع الضرر، وتبين شروطه وتحدد ضوابطه.

آثار ومظاهر منع الضرر في الاقتصاد الإسلامي

إن الضرر قد ثبت تحريمه في الشريعة فحيثما وقع امتنع، وقد خصت السنة منها نوازل واقعة ليحمل عليها غيرها، وتقاس عليها نظائرها، مثل نهيه صلى الله عليه وسلم، عن بيع الحاضر للبادي؛ لأن هذا العمل إذا ما وقع أحدث اضطراباً في الأسعار، وألحق ضرراً بالناس، لأن البادي إذا ما تولى بيع سلعته بنفسه وسع على الناس في الثمن وأرخص فيه، لكن إذا ما اشتراها منه الحاضر فإنه يمتنع من بيعها إلا بسعر البلد مما يضيق على الناس، وهذا ظاهر من تعليله صلى الله عليه وسلم عندما قال: «لَا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ، دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقِ اللهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ»(4).
وقد ذهب العلماء إلى اعتبار نفي الضرر علة في تشريع عدد من الأبواب الفقهية كالعرية(5)، حيث قالوا في علة جوازها: إنها جوزت لرفع الضرر، وكذلك الشفعة حيث جعلوا الأخذ بها من باب دفع الضرر عن الشريك، حتى قالوا: يجبر المشتري على تسليم الحصة (المستشفع فيها) وذكروا في علة مشروعية القسمة أنها شرعت لدفع ضرر التشاجر الواقع بين الشركاء.
وعلى مقصد نفي الضرر عن الأموال عول الفقهاء في استنباط أحكامهم وتحرير فتاويهم والقضاة في أقضيتهم، والأمثلة على ذلك كثيرة منها:

  1. عسر انضباط مراتب صفات المبيع في الزيادة والنقصان، حيث قال الفقهاء في باب البيع على الصفة بلزوم تنزيل كل وصف على أدنى رتبة، تجنباً لضرر الخصومات ودخول الجهالة على المبيع.
  2. فيمن اشترى من رجل شعيراً ليزرعه، وبَيَّن للبائع أن مراده به ذلك، فزرعه فثبت أنه لم ينبت، فإن البائع يرد جميع الثمن على المشتري؛ لكونه أتلفه عليه بغروره وتدليسه؛ لأن البائع بتصرفه هذا ألحق بالمشتري مضرتين، مضرة في ماله الذي دفعه في مقابل بذر لا ينبت، ومضرة حرمانه من ثمرة زرعه بسبب عدم نبت الشعير الذي اشتراه لهذا الغرض.

ولما كان إجراء العقود على أصولها التي شرعت لها يؤدي في بعض الحالات والوقائع إلى لحوق ضرر بأحد طرفي العقد؛ عمد الفقهاء إلى إدخال استثناءات على تلك الأصول لجعلها متفقة ومقصد نفي الضرر عن الأموال؛ كالعارية مثلاً، فإن الأصل فيها عدم اللزوم، إلا أنهم قالوا باللزوم فيها في بعض الحالات منها:

  1. لو أن رجلاً استعار جدار غيره لموضع جذوعه ووضعها، ثم باع المعير الجدار، فإن المشتري لا يمكَّن من رفعها، وقيل: لا بد من شرط ذلك وقت البيع.
  2. ويندرج في هذا المعنى ما ذكره المازري في علة جواز العرية حيث قال: (وعلة جوازها رفع الضرر؛ وذلك أن صاحب الحائط لا ينفك غالبا من دخوله لحائطه يجني ثمرته، وقد يؤذيه بإكثار المسير والمرور والرجو فسامح الشرع في هذه المحرمات لدفع هذا الضرر وصيانة المال، ودفع الضرر عنه بوجب الترخيص فيما الأصل فيه المنع).

إن كل شيء مُنِع منه الإنسان لحقِّ نفسه فهو ممنوع منه في حق غيره، ومن ثم فإن المرء لما كان ممنوعاً من إلحاق الضرر بماله كيفما كانت طبيعته فهو ممنوع من ذلك في حق أموال غيره.
وتوسَّع الفقهاء في معنى نفي الضرر حتى جعلوا من يفوِّت الغرض المقصود من عمل صاحب المال في ماله مضراً به، وقد أدت رعاية هذا المعنى الدقيق في الوقائع والنوازل إلى التفريق بين أحكام صور متشابهة، حيث قال الفقهاء: (إذا تعدى المودع على الوديعة فاشترى بها تجارة فربح فيها فإن الربح له، وإذا تعدى المقارض في مال القارض فاشترى غير الذي أمره بشرائه فإن الخيار لرب المال بين أن يضمنه وبين أن يقره على القراض ويقاسمه الربح، مع أن التعدي في كلا الموضعين موجود؛ لأن الوديعة لم يقصد بها التنمية، وإنما قصد بها الحفظ، فلم يزل غرضه بتعدي المودع عليها قائما؛ لأن الحفظ موجود فيها على كل حال، وليس كذلك القراض؛ لأن رب المال قصد به التنمية، فلو لم يكن له الخيار لكان العامل قد منعه غرضه، وليس له ذلك فافترقا) (6).

(1) أخرجه أحمد في المسند (5/55) مسند عبد الله بن عباس حديث رقم (2865) وابن ماجه في سننه، كتاب الأحكام، باب: من بنى في حقه ما يضر بجاره (2/784) حديث رقم (2341)، والحاكم في المستدرك على الصحيحين، كتاب البيوع (2/66) حديث رقم (2345) والبيهقي في السنن الكبرى، كتاب: الصلح، باب: لا ضرر ولا ضرار (6/114) حديث رقم (11384) وقال الحاكم في المستدرك: «على شرط مسلم» قال ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم، تحقيق: شعيب الأرناؤوط – إبراهيم باجس، مؤسسة الرسالة – بيروت، الطبعة: السابعة، 1422هـ – 2001م (2/211): «قال أبو عمرو بن الصلاح: هذا الحديث أسنده الدارقطني من وجوه، ومجموعها يقوي الحديث ويحسنه، وقد تقبله جماهير أهل العلم، واحتجوا به، وقول أبي داود: إنه من الأحاديث التي يدور الفقه عليها يشعر بكونه غير ضعيف» وصححه الألباني وفصل في ذكر شواهده في إرواء الغليل (3/408 – 414).
(2) أخرجه أبو داود، كتاب الأقضية، باب من القضاء (3/ 315) حديث رقم (3635) وابن ماجه (2/ 785) حديث رقم (2342).
(3) ينظر: شرح القواعد الفقهية، الشيخ أحمد الزرقا (ص: 179) والقواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب الأربعة، محمد الزحيلي (1/ 210).
(4) أخرجه مسلم، كتاب البيوع، باب تحريم بيع الحاضر للبادي (3/ 1157) حديث رقم (1522).
(5) العرية: هي أن يخرص الخارص نخلات فيقول هذا الرطب الذي عليها إذا يبس تجيء منه ثلاثة أوسق من التمر مثلا فيبيعه صاحبه لإنسان بثلاثة أوسق تمر ويتقابضان في المجلس، فيسلم المشتري التمر ويسلم بائع الرطب الرطب بالتخلية، ينظر: شرح النووي على مسلم (10/ 188).
(6) عدة البروق في جمع ما في المذهب من الجموع والفروق (ص: 665).

Comments are disabled.