وكالات التصنيف الائتماني الكبرى بين الموضوعية والأغراض الخاصة

بقلم الدكتور/ عبد الناصر حمدان بيومي

في ظل تطور الأسواق العالمية وترابطها، تلعب وكالات التصنيف الائتماني الكبرى دورًا كبيرًا في اقتصاديات الدول والمؤسسات المالية، وذلك من خلال خفض أو رفع التصنيف الائتماني لها، وأثره في منح المستثمرين ثقة كبيرة في اقتصاد الدول أو العكس. وما يترتب عليه من القدرة على الاقتراض بفوائد منخفضة أو مرتفعة، وفي تدفق الاستثمارات الأجنبية وتوجهها للدول مرتفعة التصنيف.
ومنذ أُسست وكالات التصنيف الائتماني وإلى يومنا وهي مستمرة في إحداث تغييرات كبيرة في القرارات الاستثمارية للدول والمؤسسات الكبرى؛ حيث تعتمد عليها الدول والشركات الكبرى في اتخاذ قرارتها الاستثمارية.
فما هو التصنيف الائتماني؟ ولماذا تخشى الدول من خفض تصنيفها الائتماني؟ وما هي الوكالات الائتمانية الكبرى التي تصدر التقييمات الدورية؟ وهل هذه الوكالات في نشأتها وأهدافها وتقاريرها تتسم بالموضوعية والحيادية؟

أولاً: مفهوم التصنيف الائتماني وأسسه وأهميته:

التصنيف الائتماني (Credit Rating): هو قياس لقدرة الدول أو الشركات أو البنوك المقترضة أو الجهات المصدرة للأوراق المالية ذات الدخل الثابت على الوفاء بأصل الدين وفوائده في الوقت المناسب، واحتمال التخلف عن السداد. وهو تقدير تقوم به وكالات التصنيف الائتماني؛ لتقدير أهلية الدول للحصول على قروض بفوائد منخفضة أو مرتفعة، وذلك بحسب قدرة تلك الدول على السداد، وتاريخها في سداد ديونها…
وأما أسسه: فإن التصنيف الائتماني يعتمد على تحليل شامل لعدد من العوامل المالية والاقتصادية، التي تحدد قدرة الملاءة المالية للمقترض؛ كالقدرة على السداد، وحجم الاحتياطيات النقدية، ونسبة الاحتياطي مقابل المديونية، ونمو الناتج المحلي الإجمالي، وتوازن الميزانية، ومعدل البطالة، والتاريخ الائتماني، والمؤشرات الاقتصادية؛ كنسبة النمو الاقتصادي ومعدلات التضخم…، إضافة إلى مدى سهولة التدفقات النقدية الأجنبية من الداخل والخارج، وسابقة التعامل مع الدائنين، وأسعار الفائدة التي سبق الاقتراض بها، فضلاً عن حالة الاستقرار السياسي والأمني، وآثارها الاقتصادية؛ وخاصة القدرة على سداد الديون.
وأما أهمية التصنيف الائتماني: فإنه يُسَهِّل تداول الأوراق المالية، ويؤثر على سعر الفائدة الذي تدفعه الورقة المالية، فالتصنيفات الأعلى تعني انخفاض أسعار الفائدة والعكس بالعكس، فكلما كانت الجدارة الائتمانية لدولة ما ضعيفة، كلما كانت تكلفة حصولها على الديون عالية، فتخفيض التصنيف الائتماني لدولة ما سيؤدي حتمًا إلى خسارة عشرات المليارات من الدولارات في صورة تكاليف اقتراض أعلى. بل وقد تصرف الدائنين عن إقراضها، على الرغم من احتياج الدول للقروض، وهو أمر واقع بالفعل في دول جنوب إفريقيا؛ حيث ترتفع تكلفة الاقتراض لدرجة لا يمكن لهذه الدول تحملها، وذلك بسبب تدني التصنيف الائتماني لتلك الدول؛ مما يصرف المستثمرين عن المخاطرة بالاستثمار في تلك الدول إلا بفائدة مرتفعة جدًّا.

ثانيًا: نشأة التصنيف الائتماني:

نشأت وكالات التصنيف الائتماني لتكون الجهة الموجهة لرأس المال الساخن والاستثمارات الأجنبية في العالم، وتحديد الدرجة الائتمانية للدول، وما يترتب على ذلك من التكمن من الاقتراض بفائدة منخفضة أو مرتفعة، ويُعَدُّ التصنيف الائتماني السيادي المصنف من قِبل وكالات التصنيف الدولية أمرًا مهمًّا للغاية للدول من أجل الحصول على أكبر قدر ممكن من الأموال من السوق الدولية، ومن ثَمَّ جذب الاستثمارات الأجنبية، حيث يُستدل من التصنيف الائتماني السيادي لدولة ما على مستوى مخاطر مناخ الاستثمار فيها؛ لذا يلجأ المستثمرون في الغالب إلى توظيف التصنيفات التي حددتها وكالات التصنيف الائتماني كمؤشر إرشادي يحدد الجدارة الائتمانية للدول المختلفة.
ولا شك أن التصنيف الائتماني يتأثر بمدى الاستقرار السياسي والأمني في الدول، فعدم وجود استقرار سياسي ينعكس بشكل مباشر على الاقتصاد؛ مما يشكك في قدرة الدولة على الوفاء بتعهداتها الخارجية واتفاقاتها مع الدول الأخرى.
وعادة ما تطالب المؤسسات المالية الدولية، الدول طالبة المساعدة أو القروض، بأن يتوفر لديها تصنيف ائتماني يحدد جدارتها الائتمانية، كأحد مسوغات التعامل معها. كما تعتبر تقارير وكالات التصنيف مسوغًا لتسويق الدول المقترضة لدى الدائنين الدوليين، أو أسواق الدَّين.
ولا شك في أن هذه النشأة مرتبطة بسيادة النظام الاقتصادي الربوي في العالم، فلم يكن العالم في عصور ازدهار الحضارة الإسلامية بحاجة إلى مثل هذه الوكالات؛ لأن الإسلام وضع أسسًا واضحة للتكافل والتضامن والاتحاد بين المجتمعات والدول لتلافي المخاطر والنكبات المادية، ولا يعرف الاقتصاد الإسلامي الاقتراض الربوي بل يحث على القرض الحسن القائم على الإحسان والإرفاق والتعاون على البر والتقوى، والتخفيف والتيسير على المعسر بدون مقابل مادي، بل ابتغاء وجه الله تعالى.

ثالثًا: تاريخ أشهر وكالات التصنيف:

هناك ثلاث وكالات تصنيف كبرى تستحوذ على 95٪ تقريبًا من سوق التصنيفات الائتمانية في العالم، فتستحوذ وكالتي موديز، وستاندرد آند بورز معًا على 80٪ من السوق العالمية، كما تستحوذ وكالة فيتش على 15٪ أخرى، وتاريخ نشأتها وممارسة عملها كالتالي:

  1. وكالة ستاندرد آند بورز (S & P): تأسست في العام 1860م، وهي جزء من شركة “ستاندرد اند بورز غلوبال” ويقع مقرها في نيويورك. يعتبر تصنيف السندات الحكومية والشركات والأوراق المالية الخاصة من بين أهم خدماتها. وتصنيفاتها الائتمانية قصيرة وطويلة الأجل.
  2. وكالة موديز (Moody’s): وهي شركة قابضة، أسسها جون مودي في عام 1909م، وتملك خدمة مودي للمستثمرين، التي تقوم بالأبحاث الاقتصادية والتحليلات المالية، وتشتهر بتقييم السندات الحكومية والشركات والمؤسسات المالية؛ من حيث القوة المالية والائتمانية.
  3. وكالة فيتش (Fitch Ratings): وقد تأسست في عام 1913م، في مدينة نيويورك حيث يقع مقرها الرئيس، واندمجت مع شركة IBCA المحدودة ومقرها لندن في عام 1997م.

وقد اكتسبت هذه الوكالات أهمية كبرى، عندما اعتمدتها هيئة الأوراق المالية الأمريكية في عام 1975م، كجهات ذات مصداقية واعتماد لديها. ولتقارير هذه الوكالات أثر كبير، فقد تساعد على تدفق الاستثمارات الأجنبية للبلاد، وبالتالي رفع قيمة عملتها، أو العكس فقد تساعد على خروج الاستثمارات الأجنبية، وبخاصة الاستثمارات غير المباشرة، التي يمكنها الخروج بسرعة من الأسواق المعرضة للخطر؛ مما يترتب عليه تراجع العملات المحلية بشكل كبير، تأثرًا بخروج الأموال الخاصة بتلك الاستثمارات، بسبب زيادة الطلب على العملات الأجنبية في السوق المحلية.

رابعًا: مستويات التصنيف الائتماني:

تتراوح مستويات التصنيف لدى وكالات التصنيف الائتماني ما بين: (AAA) “درجة أمان عالية”، وهو أعلى تصنيف للجدارة الائتمانية، وإن كان يتضمن درجات تابعة مثل (AA)، أو (A)، ثم تصنيف (BBB) ويعني جدارة ائتمانية متوسطة” ودرجاته المختلفة، كسابقه، ثم التصنيف (CCC) “جدارة ائتمانية عالية المخاطر”، ثم التصنيف الأخير (DDD) “جدارة ائتمانية متعثرة” ودرجاتهما المختلفة كما سبق. فالتقييم يبدأ في أعلى درجة أمان من (AAA) إلى أدنى درجة أمان وهي (D). والمعايير المتوسطة تكون بين AA وCCC (مثال: +BBB وBBB و-BBB).
وتمنح الوكالات تصنيفات محددة للدول حسب حالة كل دولة، مع نظرة مستقبلية سلبية أو إيجابية، أو غير مستقرة أو مستقرة؛ وهي تبين ما إذا كان من المرجح أن يتم ترقيته (إيجابية) أو خفضه (سلبية) وربما تكون غير مؤكدة (محايدة). وتتراوح مدة النظرة المستقبلية بين ستة أشهر إلى عامين. كما تقوم وكالات التصنيف بمراجعة تصنيفها للدول كل ثلاثة أشهر. ويمكن أن يتغير التصنيف من عام لآخر وفق تطور ونمو الاقتصاد.
ولا شك أن التصنيف الائتماني للدول ينعكس على الشركات والمؤسسات المالية التي تعمل بتلك الدول بصورة مطردة، فنادرًا ما نجد شركة كبيرة ناجحة تأخذ تصنيفًا ائتمانيًّا أعلى من تصنيف الدولة التي تعمل بها.

خامسًا: وكالات التصنيف الائتماني بين الموضوعية والأهداف الخاصة:

تهدف وكالات التصنيف الائتماني إلى سد الفجوة المعلوماتية عند المستثمرين في داخل وخارج الدولة محل التقييم، وتقديم المشورة حول قدرة هذه الدولة على السداد المنتظم، الذي لا يربك سوق الدَّيْن، ويضمن حقوق الدائنين. وكلما ارتفعت قدرة الدول أو الشركات على سداد ديونها، كلما ارتفع تصنيفها الائتماني.
والأصل في وكالات التصنيف الائتماني أنها مؤسسات فنية محايدة، ولتقاريرها أهمية كبيرة في توجيه الاستثمارات الدولية بين الدول، وفي تيسير سبل الاقتراض، ولكن الممارسة العملية بينت أنه يشوبها بعض السلبيات، وأنها ليست محايدة، ولها أغراض أخرى، فقد أخطأت في بعض تقاريرها، وفي بعضها الآخر كانت التقارير مُسيَّسة، وفق إرادة الدول الكبرى، يدل على ذلك:
أنها فشلت في تصنيف سندات الرهون العقارية التي تسببت في الأزمة المالية العالمية عام 2008م، حيث أعطتها تصنيفًا ائتمانيًّا مرتفعًا لا يعكس المخاطر الحقيقية لتلك السندات؛ مما زاد من إصدار الأوراق المالية المركبة ذات المخاطر المرتفعة المضمونة بالرهون العقارية السكنية؛ مما أدى إلى عدم قدرة المؤسسات المالية على الوفاء بالتزاماتها المالية، وحدوث مشكلات في السيولة.
وفي عام 2010م خفضت مؤسسة ستاندر آند بورز التصنيف الائتماني للولايات المتحدة الأمريكية إلى (AA+)، فطالبت أمريكا بسحب التقرير خلال 24 ساعة، وهو ما تم بالفعل، وأُعيد التصنيف الائتماني لأمريكا عند أعلى درجاته كما كان (AAA) .
وفي عام 2018م تم تخفيض التصنيف الائتماني لتركيا على الرغم من أدائها الاقتصادي الجيد؛ لخلافها السياسي مع الإدارة الأمريكية. ومعلوم أن صادرات تركيا الصناعية بلغت (168) مليار دولار عام 2018م، ووصلت إلى (254) مليار دولار عام 2022م، وتهدف لزيادتها إلى (265) مليار دولار بنهاية عام 2023م، وإلى (400) مليار دولار عام 2028م، مع أن تركيا ليس لديها موارد بترولية من النفط والغاز ونحوها. كما أن تركيا ليست مدينة للمؤسسات المالية الدولية؛ كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي. ولدى تركيا خدمات اجتماعية متميزة للغاية… وهذه كلها مؤشرات لقوة الاقتصاد التركي، وإن كانت تعاني من ارتفاع التضخم فهو ما تعاني منه أمريكا وبريطانيا والعديد من دول أوربا.
ويزيد الأمر وضوحًا ما جاء في تقرير الأمم المتحدة الإنمائي عن شهر أبريل 2023م، أن التكلفة الكاملة لانحراف التصنيف الائتماني في أفريقيا تقدر بمبلغ 74.5 مليار دولار أمريكي من الفوائد الزائدة والتمويل الضائع على بلدان القارة.(1)
مما يعني أن انحراف وكالات التصنيف الائتماني عن الموضوعية كلف دول إفريقيا قرابة 75 مليار دولار، في حين أن ما حصلت عليه قارة إفريقيا من مساعدات في عام 2021م بلغ 58 مليار دولار، وهو أقل من الأموال الضائعة بسبب انحراف التصنيفات الائتمانية.
وهو ما دعا الرئيس السنغالي ماكي سال في بداية عام 2022م، وكان رئيس الاتحاد الإفريقي وقتها، إلى الدعوة لإنشاء وكالة تصنيف ائتماني لعموم إفريقيا؛ تهدف إلى الصمود في وجه التصنيفات التعسفية الحالية؛ لأن الإجراءات التي اتخذتها وكالات التصنيف الائتماني الثلاث الكبرى تؤدي إلى ارتفاع تكاليف الاقتراض، وتناقص إمكانية الوصول إلى أسواق رأس المال الدولية بالنسبة لمصدري الديون العامة والخاصة في إفريقيا…(2)
وفي الختام: هل تلتزم وكالات التصنيف الائتماني العدالة والموضوعية؛ لتحقيق المصلحة العامة لكل الدول، وهل تبتعد عن الانحراف عن أهدافها؛ لتلافي الإضرار ببعض الدول؛ استجابة لرغبات الدول الكبرى.
وهل تصحح وكالات التصنيف الائتماني مسارها، وتسلك مسلكًا محايدًا في تصنيفها الائتماني للدول، أم تظل على هذا المسلك المنحاز لدول على حساب أخرى؟

(1) https://www.undp.org/sites/g/files/zskgke326/files/2023-04/Full.
(2) https://www.undp.org/sites/g/files/zskgke326/files/2023-04/Full.

Comments are disabled.