توزيع مبالغ دورية ثابتة على جميع المواطنين
Universal Basic Income (UBI)
نظرة شرعية وسابقة إسلامية
بقلم الأستاذ الدكتور/ عبد العظيم أبوزيد
جامعة حمد بن خليفة – مؤسسة قطر
دعت مؤخراً بعض الأصوات في الغرب -ولا سيما في أمريكا(1)– الحكومات إلى توزيع دخول فردية ثابتة على جميع المواطنين دون عمل مقابل. أي: بأن يُعطى من يبلغ سنّاً معينة مبلغاً شهرياً ثابتاً طيلة حياته بدون مطالبته بعمل مقابل، وبصرف النظر عن دخله ووضعه المادي، وزادت حدة هذه الأصوات فترة جائحة كوفيد بعد تجربة بعض الحكومات توزيع مبالغ دورية خلال هذه الجائحة على كل من استوفى شروطاً معينة من المواطنين.
والفكرة هنا تختلف عما تقوم به بعض الحكومات من توزيع مبالغ ثابتة على كبار السن الذين بلغوا سنّاً معينة، أو توزيع مبالغ معينة إلى الأسرة عن كل طفل عند استحقاق الأسرة لشروط معينة، وسبب الاختلاف أن الفكرة هنا تقوم على دفع الحكومة مبلغاً دوريّاً ثابتاً لكل من بلغ سنّاً معينة بدون شروط، وبصرف النظر عن وضعه المادي.
ويُتصور أن هذه الفكرة تحقق المنافع الآتية، وبعضها ذكره فعلاً بعض المنادين بها (2):
- تسهم في تأمين الحاجات الأساسية لكل المواطنين، وهذا حق طبيعي من حقوق الإنسان، ولا سيما أن الدلائل تشير إلى استمرار ارتفاع نسبة البطالة مع الزمن نتيجة التطور المستمر لتطبيقات الذكاء الصناعي والتكنولوجي، إذ من المتوقع أن تختفي كثير من الوظائف، ويقل عدد العاملين في القطاع الواحد نتيجة دخول الآلة الذكية(3).
- يوفِّر هذا العمل على الدول التي تَقصُر دعمها على الأُسَر أو الأفراد قليلي الدخل نفقاتِ التحقق من حاجة هؤلاء قبل إعطائهم، وهي نفقات ضخمة بالإمكان توفيرها وصرفها إلى الناس مباشرة.
- إن كان المبلغ الموزع مجزياً فإن فيه نفعاً من حيث توجيه طاقات الأفراد نحو الأعمال التي يحبونها فيبدعون فيها وينفعون، إذ لا يخفى أن كثيراً من الناس يمارسون العمل الذي لا يناسب أمزجتهم أو تخصصاتهم، نتيجة الحاجة المالية؛ فإن أمكن للدولة أن تسد حاجة الأفراد المالية الأساسية عبر تطبيق هذه الفكرة، فإنهم سيتوجهون نحو ممارسة الأعمال التي ترتبط باختصاصاتهم ويحبونها، فتزداد إنتاجيتهم. فضلاً عن أن ذلك قد يعينهم على التفرغ لتحسين مؤهلاتهم عبر الدراسة والتدريب.
- يعين هذا الدخل الآباء على إيجاد مزيد من الوقت للاهتمام بأولادهم وتنشئتهم التنشئة الصالحة.
فهذه هي مجمل المنافع المتصورة من تطبيق فكرة توزيع دخل دوري ثابت على جميع الأفراد، فما موقف الشريعة الإسلامية من هذه الفكرة، وهل تتسق مع أصول الشرع ومبادئ الاقتصاد الإسلامي؟
ديوان العطاء في صدر الدولة الإسلامية
إن قضية توزيع الأموال على عامة الناس من السياسات التي عرفها التاريخ الإسلامي، حيث تذكر لنا مصادر التاريخ الإسلامي أن الدولة الإسلامية كانت ترصد نفقاتها عن العام، فتحجزها، ثم توزع الفاضل بين الناس.
إن موارد الدولة كانت محدودة زمن النبي صلى الله عليه وسلم قبل التوسع في الفتوحات، ومع هذه المحدودية فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يوزع ما يأتيه من أموال بين الناس كافة، ثم توسعت الدولة الإسلامية في فترة الخلافة الراشدة وكثرت الموارد، فصارت الدولة الإسلامية الناشئة أقدرَ على القيام بهذا العمل.
واختلفت سياسة توزيع هذا المال من عهد لآخر، ففي عهد الصديق رضي الله عنه، كان هذا التوزيع بين الناس في السوية، في حين صار وفق معايير معينة زمن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
والمعروف أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه هو من أسّس ديوان العطاء، وكان يوزع المال سنوياً بين الناس كافة وفق معايير محددة؛ فكان التفاضل مثلاً تبعاً للقِدم في الإسلام، والمشاركة في الحروب، والقرب والبعد من العدو؛ لأن القريب من العدو يقع عليه عبء حماية الثغور، فيكون أولى بزيادة العطاء من غيره(4).
وكان عمر رضي الله تعالى عنه يأخذ في الحسبان أيضاً في هذا العطاء حجمَ ثروة كل فرد، فكان رضي الله تعالى عنه حريصاً على عدم تركيز الثروات في أيدي مجموعة من الناس، وقد كان هذا الاعتبار سبباً من أسباب عدم تقسيمه أراضي العراق والشام التي فتحت في عصره بين الفاتحين(5).
ووضع عمر لأجل تنظيم ذلك ما عرف باسم ديوان العطاء، جرى فيه تسجيل أسماء الناس واستحقاقاتهم، ولم يستثن من الناس أحداً، فكان المال يوزع من ديوان العطاء على الكبير والصغير وكلِّ مولود، وعلى الحر والعبد، والقريب والبعيد، بل وحتى على المحتاجين من أهل الذمة(6).
ولا شكّ أن الذي استدعى عمر للتفضيل بين الناس في العطاء أن المال بدأ يتدفق بغزارة وكثرة إلى خزينة الدولة نتيجة الفتوح في فارس والشام وسائر الأمصار، زمن عمر بن الخطاب، بما يفيض عن حوائج الناس الأساسية، خاصة أن عمر قد أبقى الأراضي المفتوحة في أيادي أصحابها وفرض عليها الخراج، أي مبلغاً يرتبط بحجم الإنتاج الزراعي لتلك الأراضي؛ فلما كثر الخير وفاض عن حاجة الدولة، قام عمر بتوزيع الفائض على الناس وفق معايير معينة، بعد التأكد من أن أقل المال المعطى يلبي حوائج الناس الأساسية(7).
وبعد الخلافة الراشدة، بدأ الخلفاء يتجهون إلى تقنين الصرف من ديوان العطاء، فصار المال يُعطى لمن يعمل للدولة الإسلامية، وللمدافعين عن الثغور(8)، وللمستحقين من عامة الناس، وقلّ توزيع المال على كافة الناس.
وعليه، فإنه يُفهم مما تقدم أن الدولة الإسلامية وزَّعت المال على الناس كافة بصرف النظر عن حاجتهم لما كان هناك فائض في خزينة الدولة عن حاجتها، وهذا يدلّ على أن الأمر مشروع في ذاته؛ وإلا ما كانوا ليفعلوه. ويمكن من مطالعة مصادر التراث الإسلامي في هذا الجانب الخروجُ بما يلي:
- الدولة في الإسلام مسؤولة عن سدّ الحاجات الأساسية لجميع الناس، ومواردها المتنوعة من زكوات وصدقات وضرائب وتوظيفات ونحو تضمن لها -مع حُسن الإدارة وعدالة التوزيع- القدرة على ذلك(9).
- كان الفاضل في بيت المال يوزع كل عام، بعد تغطية نفقات الدولة وسد حاجات الفقراء والمستحقين، بين عامة الناس في صدر الدولة الإسلامية، وكان العطاء يصل إلى الصغير والكبير والمسلم وغيره.
- سداد حاجة الفقراء والمعوزين من مسؤولية الدولة الأساسية، أما إعطاء كل فرد بالمطلق، فهو أمر زائد قامت به الدولة في الإسلام دون وجود نصٍ شرعي يستدعي وجوبه أو لزومه على الحاكم، فيكون لذلك أمراً مشروعاً في الأصل وخاضعاً لمقتضيات السياسة الشرعية. أي: تحقيق المصالح ودفع المفاسد، وهذا بدوره يقودنا إلى الحديث عن الاعتبارات المقاصدية في هذا الجانب. أي: وزن الأمر من حيث مصالحه ومفاسده.
الاعتبارات المقاصدية:
إذا كان أصل فكرة توزيع المال بالطلق على الناس مشروعاً وواقعاً في الإسلام كما تقدم أعلاه، فلا شك أنه يخضع لميزان المصالح والمفاسد. أي: فترتبط مشروعية الأمر عند تطبيقه بالموازنة بين المصالح المرجوّة منه والمفاسد المترتبة عليه، هذا مع افتراض حسن الإدارة من قبل الدولة المسلمة في كل الجوانب ذات الصلة، وهذه الاعتبارات تمثل ضوابط وشروطاً لقيام الدولة بتوزيع المال على جميع مواطنيها على النحو الذي ينادي به دعاة ما يسمى اليوم بالدخل الأساسي العام (Universal Basic Income)، وهي كما يلي:
- إن كان هذا العمل يؤثر على قدرة الدولة على مسؤوليتها الواجبة من كفاية المستحقين ورعايتهم، فهو أمر ممنوع، بخلاف ما إذا كان لا يؤثر، فيكون مشروعاً في الأصل.
- إن كان هذا العمل يؤثر على قدرة الدولة على القيام بأعبائها المختلفة من بناء مؤسسات الدولة، والنفقة عليها، وتغطية نفقات الدفاع، ونفقات الطوارئ، ونحو ذلك، فهو أمر غير مشروع باعتبار مفاسده هذه.
- لا يجوز للدولة أن تقوم لتغطية كلفة قيامها بهذا العمل بزيادة الضرائب المشروعة على العاملين والمنتجين، فهؤلاء بدورهم سيرفعون أسعار منتجاتهم وخدماتهم على الناس، مما يُعدِم الفائدة المرجوّة من هذا العمل أصلاً، ويجعل الاقتصاد يدور في حلقة مفرغة.
- لو كان على الدولة دين، فإنه يمتنع عليها أن تنفق أي مبلغ ولو قلّ فوق النفقات الأساسية، وينبغي صرف الفائض في سداد الدين، مراعاة لحق الدائنين، ودفعاً للأضرار السياسية والاقتصادية المختلفة والمعروفة التي تنجم عن الديون.
- على الدولة أن تراعي بقاء مبالغ مالية احتياطية في بيت المال تسدّ بها النفقات الطارئة غير المحسوبة، وتحفظ لها هيبتها وثقلها المالي والاقتصادي.
- ويُراعي أيضاً ألا يؤدي قيام الدولة بهذا العمل إلى إقعاد الناس عن العمل والسعي، وهذا وارد إن كان المبلغ الموزع دورياً مبلغاً معتبراً يلبي الحاجات الأساسية؛ فيكون ضرره في هذه الحال ضرراً بالغاً.
النتيجة:
تتبين مما تقدم سبقُ الدولة الإسلامية إلى هذا العمل ومشروعيةُ هذا الأمر في الأصل، إلا أنه يبقى تبعاً للمصلحة التي تُقرّر وفق السياسة الشرعية في كل مكان وزمان، مع وجود شروط وضوابط لابدّ من التحقق بها.
وثمة أمر آخر لا بدّ من التنويه إليه، وهو أنه لا يمكن للدولة أن تقوم بهذا العمل من صندوق الزكاة الواجبة؛ لأن للزكاة مصارف معينة في الإسلام، فلا يجوز إنفاقها في غير هذه المصارف التي حددتها مصادر الشريعة، وأهمها الفقراء والمحتاجون. والفكرة هنا تقوم على صرف المال على الناس بصرف النظر عن استحقاقهم له، فلا يجوز صرف الزكاة في هذا العمل لذلك ولو أدى من حيث النتيجة إلى تغطية حوائج الفقراء والمعوزين؛ لأن جزءاً من الزكاة في هذه الحالة يكون قد صرف في غير مصرفه، أي إلى غير مستحقي الزكاة وهذا غير جائز كما تقدم.
(1) من أشهر مؤيدي هذه الفكرة في أمريكا Andrew Yang، فقد دعا إلى أن تقوم الحكومة الفدرالية بدفع مبلغ ثابت شهرياً إلى كل فرد (لو دفعت الحكومة الفيدرالية 1000 دولار إلى كل فرد بلغ الثامنة عشرة فإن ذلك يكلف الحكومة 2.8 تريليون دولار سنوياً) وفي رأيه أن هذه الكلفة يمكن تغطيتها عبر رفع ضريبة القيمة المضافة، وفرض ضريبة على انبعاثات الكربون، ومن توفير نفقات التحقُّق من أهلية المستحقين لبرامج المساعدة القائمة حالياً. انظر “The Freedom Dividend, DefinedThe Freedom Dividend, Defined”
(2) “The Freedom Dividend, Defined”
(3) وفقاً لتقرير أعدته شركة ماكيزي للاستشارات المالية سنة 2017، فإنه يتوقع أن يطال تأثير التطور التكنولوجي الآلي 50% من اقتصاد العالم، ويضرّ بـ 1.2 مليار موظف، ويلغي 14.6 ترليون دولار من الأجور. ووفق ذات التقرير، فإن 60% من المِهَن في العالم تقبل التطوير التكنولوجي الآلي بنسبة 30% من أنشطة تلك المهن، أي تقبل الاستغناء عن الموظفين بتلك النسبة. https://www.mckinsey.com/featured-insights/employment-and-growth/technology-jobs-and-the-future-of-work
(4) وهذا التوزيع والأعطيات هي غير الغنائم التي كانت تُقسم بين الفاتحين بصرف النظر عن ثرواتهم أيضاً.
(5) الخراج، لأبي يوسف، دار المعرفة -بيروت 1979م: 25.
(6) الخراج، لأبي يوسف: 42 وما بعدها.
(7) الأموال، لأبي عبيد، دار الكتب العلمية – بيروت: 45، وفتوح البلدان للبلاذري، طبعة القاهرة: 3/562، والأحكام السلطانية للماوردي، دار الفكر: 251.
(8) تاريخ الرسل والملوك، للطبري، دار الفكر: 5/135.
(9) الخراج: ما يُفرض على الأرض المفتوحة التي تبقيها الدولة في أيدي أصحابها، والخراج إما خراج مقاسمة بنسبة من الناتج يُدفع إلى بيت المال، أو خراج وظيفة، أي مبلغ ثابت يُدفع عن الأرض مطلقاً بصرف النظر عن قيام صاحبها بزراعتها وبصرف النظر عما يجنيه منها. والأرض الخراجية تبقى خراجية ولو آلت إلى مِلك مسلم. أما الجزية، فتُفرض على الذمي. أي: غير المسلم في البلاد المفتوحة بشروط معينة، وتسقط عنه لو أسلم. أما الفيء، فالمراد به الغنائم التي تؤخذ من العدو المقاتل دون قتال، وأربع أخماسه يصير إلى بيت المال؛ بخلاف ما يؤخذ عن قتال، فخمسه يذهب إلى بيت المال ويُقسم الباقي بين المقاتلين وفق معايير معينة.